ماذا بعد؟
بعد سنوات من محاولات خلق توازن في عالم أصابه خلل حقيقي في التوازن بين غرب يشنّ الحروب والعقوبات الإجرامية ضد الشعوب بهدف الحفاظ على مكانته وقدراته على نهب ثرواتها، وشرق يتطلع إلى قيادته، ومحاولات دبلوماسية وسياسية وسردية لكسب نقاط هنا وهناك، وصلت الأمور إلى نهايتها ببدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي عبرت فعلياً عن أن الكيل طفح، وأن هذا التوازن الوهمي والصراع المتستر تحت قضايا عدة لم يعد قابلاً للاستمرار، وأن الأمر بحاجة إلى حسم في لحظة ما، وبطريقة ما، بعد أن وصل الحلف العسكري "الناتو" إلى حدود روسيا مدججاً بالأسلحة البيولوجية والعدوانية النازية.
إنّ الاحتدام الذي نشهده اليوم في الساحة العالمية، بكل تجلياته من أفعال وردود أفعال، كان لا بدّ منه، وذلك لاستحالة الاستمرار بالمرحلة التي وصل إليها العالم، من غرب شرس يستمر بشن الحروب ونشر الأوبئة وفرض العقوبات والتآمر المخابراتي على طريقة المافيا؛ غرب بدأت تتأكل مصداقيته وقدرته على التعامل مع الآخرين، إلا من خلال استهدافهم وإلحاق الأذى بهم، من خلال عصا العقوبات الإجرامية التي تستهدف المدنيين الأبرياء، وشرق يحاول تثبيت قيم الكرامة والسيادة والمساواة وإعادة الاعتبار إلى القوانين والشرعة الدولية التي أفرزتها حربان عالميتان، والتي تم استبدال معظمها بسلاح القوة الأميركية الإمبريالية وشريعة الغاب.
إن مرحلة الصدام هذه كانت حتمية، ولكن لم يكن أحد يعرف شكلها وتوقيتها والحدث الذي سيكون السبب المباشر للإيذان بها، وشاءت التطورات أن يكون الحدث بقيادة روسيا وعلى الأرض الأوكرانية، ولكنّ تفاعلات هذا الحدث بكل أبعاده ومناحيه التي شملت كل ما يخص حياة الشعوب والدول، تجاوزت بمراحل كونه حدثاً إقليمياً حول مسألة واحدة محددة أو بلد واحد بعينه أو خلاف واحد تتسارع الأحداث لوضع حد له.
لنبدأ من البداية القريبة والمباشرة، لأن العالم يجد صعوبة في تذكر أن الوضع في إقليم دونباس آخذ بالتفاقم، لأن أداة الحرب الإعلامية الغربية لم تكن تغطي أحداث هذا الإقليم، بهدف عدم إيصال معاناة سكانه إلى ضمائر العالم.
لذلك، وإذا اعتبرنا أن البداية المباشرة بدأت من السجال والتصعيد الغربي الإعلامي والدبلوماسي منذ أشهر ضد روسيا والردود الروسية على الأوراق الغربية وطلب الضمانات الروسية وتجاهل الغرب مصادر قلق روسيا الحقيقية، فيمكن أن نعتبر أن البداية، بالنسبة إلى معظم الناس، كانت من التصعيد والتهديدات الغربية ضد روسيا والتلويح بالعقوبات والتهديد بتكاتف دول الناتو ضد أي إجراء تتخذه روسيا لانتزاع ضمانات عدم تحول أوكرانيا إلى دولة ناتو وإلى دولة نووية، رغم رفض الغرب إعطاء هذه الضمانات.
وكانت الحملة الإعلامية الغربية الهستيرية ضد روسيا، والتي برهنت للمرة الألف، وبما لا يقبل الشك، أن الإعلام الغربي هو إحدى أدوات شن الحروب الغربية ضد الشعوب الآمنة، وأن المخابرات الغربية تتحكم فيه إلى آخر عنوان وآخر مقال، فهو أداة فعالة وشرسة من أدوات الحرب الغربية ضد الشعوب، كما أنه يستهدف التحكم في آراء وتقييمات البشر وغسل أدمغتهم بالأخبار والمعلومات الملفقة وتبرير تغطية جرائم الحرب والإرهاب التي ترتكبها حكوماتهم وجيوشهم ومخابراتهم. ولذلك، لم يعد الإعلام الغربي المسيّر يتمتع بالمصداقية، فهو بعيد كل البعد عن الدقة التي يتوخاها الجميع منه.
وقد احتلّ الأخذ والرد بين السياسيين والدبلوماسيين والناطقين الرسميين في الغرب ونظرائهم في الشرق الرقم الأول في المتابعات الإخبارية لأسابيع، وربما لبضعة أشهر. أما الآن وقد دخلت العملية العسكرية في أوكرانيا أسبوعها الخامس، واتخذ الغرب آلاف العقوبات غير المسبوقة ضد الشعب الروسي واقتصاده وكل مناحي حياته، من الغذاء إلى التعليم والرياضة والبحث وكل ما يخطر في البال، مثلما ارتُكِب مع سوريا والعراق واليمن وكوبا وفنزويلا وكوريا، فهو يتلذذ بتجويع الشعوب وتهجيرها وقتل الملايين من دون أي وازع من ضمير.
أما وأن العملية الروسية مستمرة رغم كل ذلك بحسب خططها وأهدافها، وقد أخذت روسيا إجراءات مهمة للتخلص من الاعتماد على الغرب في أنظمتها المصرفية وأبحاثها العلمية وأدائها الاقتصادي، وطرحت عملتها "الروبل" بديلاً من الدولار لبيع الغاز والنفط الروسي للدول غير الصديقة مع كل ما ترافق مع هذه الإجراءات من سجالات فكرية ومجتمعية ومفهوماتية، والتي كشفت أكثر وأكثر أطماع الغرب في الحفاظ على قدرته على نهب الشعوب وتهديدها وتوق الشرق للمشاركة على الأقل في غرفة قيادة العالم، فإن الحدث في أكرانيا تجاوز حدود أوكرانيا الإقليمية، كما تجاوز مرحلة الأسابيع والأشهر التي شغلها هذا الحدث ليطلّ برأسه على استكشاف تشكّل عالم جديد يتكوّن اليوم ببطء تحت الأمواج الظاهرة للعيان، ليطفو على السطح في لحظة مستقبلية ليست بعيدة، ويعلن للكون كينونته وضرورته وقوته على كل الساحات وفي كلّ الميادين.
إذاً، لم يعد حسم المعركة في أوكرانيا متعلقاً فقط بنزع سلاح أوكرانيا والاطمئنان إلى أنها لن تكون دولة ناتو، ولن تكون دولة نووية. وقد حُسم هذا الأمر تقريباً، ولكنه أصبح متعلقاً بالدروس التي تعلمتها الدول الأخرى من الاحتدام الغربي الروسي، والتي ستفضي إلى التفكير في العمل في كل مكان لبحث خطوات الاستقلال المالي والاقتصادي والمعرفي والتقني عن المنظومة الاستعمارية الغربية، والتي لا تتورع من أن تغلق أبواب الحركة والحياة في وجه كل من يتجرأ على تحدي منظومتها العقائدية الليبرالية وأطماعها في نهب ثروات الشعوب، ويسير في خط مصلحته الوطنية، ويضعها فوق كل اعتبار.
ولا شك في أن روسيا، ومن ورائها الصين والهند والبرازيل وإيران والمكسيك وسوريا وكوبا وفنزويلا ودول أخرى، ستكون سباقة إلى اتخاذ الإجراءات التي تحميها من أثر أي عقوبات غربية، وستجترح السبل والوسائل الكفيلة بتحقيق استقلالها عن المنظومة الغربية.
قد يكون جزءٌ من الرهان مرتبطاً بحلّ الإشكالية المتفاقمة في وجه الدول الأوروبية، والتي يمكن اختصارها بالسؤال التالي: إلى متى تتمكن الدول الأوروبية من الاصطفاف مع الحليف الأميركي ضد مصالحها الوطنية ومصالح شعوبها، متسببة بأزمات معيشية ستتفاقم ضمن حدودها، وتؤدي إلى اضطرابات لا تحمد عقباها، وتدفع هذه الدول إلى تغيير مواقفها تحت وطأة الضرورات الوطنية؟
ويبقى الرهان الأول والأخير على الصبر والثبات في هذا التحول التاريخي الجوهري.
النتيجة محسومة لمصلحة القوى التي تنشد إصلاح المعايير الدولية وتحقيق المساواة والكرامة بين الدول، وخصوصاً بعد أن فقد الغرب مصداقيته على أكثر من صعيد، ولكنها مسألة وقت. ولا شك في أن التحول الكبير والمهم والضروري الذي نشهده في الساحة الدولية بحاجة إلى وقت وإنضاج وحفر المسار في عقول البشر وقلوبهم قبل ارتسامه في الجغرافيا السياسية، ولكنه واقع لا محالة. وما هذا الألم الذي فرضه الغرب على الملايين في أصقاع الأرض سوى ألم مخاض سيعيد التوازن إلى المنظومة الدولية والعلاقات بين الدول، ويرسل إلى أصقاع النسيان أساليب العقوبات وشريعة الغاب والهيمنة العنصرية الغربية على حياة البشرية ومستقبلها.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.