الحكمة الكورية والحماقة الخليجية
لا شك أن مئات المليارات التي دفعها حكام الخليج للولايات المتحدة والترليونات التي سيدفعونها قريباً كانت كفيلة بأن تحقق لهم زعامة في العالم العربي، إن استخدموها لتنمية البلدان العربية، وتعزيز مصادر قوتها، وتمنحهم من أسباب القوة ما لا تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه لهم. لو أنهم أنفقوا جزءاً من هذا المال على التنمية، والتعليم في العالم العربي لوجدوا كلّ أسباب الدعم، والقوة التي تؤهلهم لنيل احترام خصومهم لهم بدلاً من تلقي الإهانات العلنية، والابتزاز مرة تلو الأخرى.
اجتمع الزعيمان في مبنى "قصر السلام" الواقع في منطقة بانمنغوم الحدودية بين الكوريتين
بعد تهديدات الرئيس الأميركي ترامب لكوريا الشمالية على مدى الأشهر الفائتة، وبعد أن استشعر الكوريون الخطر المحدق بهم قرّر زعيما الكوريتين التنازل لبعضهما، وليس لمن يتربص بهما أو بأي منهما، وبسهولة مدهشة اجتمع الزعيمان في مبنى "قصر السلام" الواقع في منطقة بانمنغوم الحدودية بين الكوريتين ليبدآ مسيرة عمل تهدف إلى إرثاء التقارب بين النظاميين المتناقضين عقائدياً، وسياسياً، وبين الشعبين الشقيقين اللذين كانا شعباً واحداً قبل الاحتلال الأميركي في الحرب العالمية الثانية.، هذا التقارب قد يقود بعد حين إلى إعادة توحيد كوريا وإنهاء ما فرضه الاستعمار الأميركي على هذا الشعب من فرقة وانقسام، لا تصبّ في خدمة مصالحه. وفي إشارة رمزية ولكنها هامة اقترح الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في هذا الاجتماع أن يقدّم توقيت الساعة بواقع نصف ساعة للتوافق مع التوقيت في كوريا الجنوبية في إطار حملة دبلوماسية مكثفة من أجل إحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية حيث قال أون في المحادثات:" أشعر بأسى عميق لرؤية ساعتين معلقتين بتوقيتين مختلفين في بيت السلام واحدة لسيؤول، والأخرى لبيونغ يانغ"، وعاد توقيت كوريا الشمالية ليتطابق مع توقيت كوريا الجنوبية بدءاً من 5 أيار مايو الجاري. لا أحد طبعاً على إطلاع على كل ما جرى من محادثات بين الزعيمين لكن لغة الجسد للزعيمين مع زوجاتهما تنبئ بتوافق وتصميم على استكمال هذا الدرب السلمي وتفويت الفرصة على الأعداء، والتنازل للأخوة والأشقاء، لتجنيب البلاد ما يتمّ التخطيط لها من قبل الطامعين المستهدفين لنهب الثروة الكورية. وفي لحظة هدوء وتفكير سليم يكتشف المرء بسهولة أنّ هذا هو المسار الطبيعي والمنطقيّ بين الأشقاء وأن هذا هو الردّ الحاسم والمناسب لكلّ استعراضات "حرامي" واشنطن "ترامب"، وتهديداته، ووعيده بالويل والثبور لمن لا يدفع له الجزية ويشتري أسلحته المتهالكة.
إذ وبحركة ذكية رابحة على كلّ الصعد أفقدته الكوريتان كلّ ما كان يبني عليه ويتبجح به، ويرسم خططه من أجل استهداف شعب مسالم يريد العيش بأمان وبغض النظر عن الأطراف التي ساعدت الكوريتين للتوصل إلى هنا، وبغض النظر عن القول إن هذا التحرك جاء نتيجة النصائح الصينية وأن نزع فتيل الخلاف يصبّ بصالح الصين والقطب الدولي الجديد فمن الحكمة أن تصغي الحكومات للأصدقاء الذين يريدون بها خيراً، وأن تجنّب شعوبها كلّ ما يخططه لهم الأعداء وتجنّب الخراب وتبديد الثروات على شراء أسلحة الدمار. ولا شك أن المتابع للأحداث كان يجد في تهديد ترامب للرئيس الكوري الشمالي تهديداً مشابهاً لتهديده العرب، وتضخيمه للبعبع الشمالي يشبه إلى حدّ بعيد ابتزازه دول الخليج بالبعبع الإيراني وخطره المزعزم كما أن ابتزازه لكوريا الجنوبية لشراء الأسلحة بمليارات الدولارات مشابه لابتزازه لحكام الخليج مع الفارق بين العقل الكوري وبين التهور الخليجي الذي أوقعهم في فخ غربي محكم لاخلاص لهم منه إلاّ باستنزافهم تماماً. وربما وبعد أن جنى "ترامب" المليارات بسهولة مدهشة من حكام الخليج ونجح في ابتزازه لهم قرّر أن يعيد التجربة مع الكوريتين إلا أن زعيمي الكوريتين برهنا أنهما مختلفان جذرياً عن حكام الخليج الذين دفعوا ويدفعون مئات المليارات للولايات المتحدة كي ينالوا الرضا، ويستمروا في الحكم مصدقين أن حماية أميركا لهم هي الضمانة متخليّن عن التضامن العربي الذي حمى العرب بعد استقلال بلدانهم لولا الشقاق الخليجي واصطفافهم مع الأعداء ضد أشقائهم العرب. والسؤال الذي نطرحه هنا هو ما الذي يمنع حكام الخليج من أن يفكروا بطريقة تشبه ما لجأ إليه حكام الكوريتين، أي أن يلجآ إلى الأخ والصديق لتحقيق القوة، والمنعة بدلاً من الخضوع لابتزاز وتهديد الأعداء، والخصوم؟!!
لا شك أن مئات المليارات التي دفعها حكام الخليج للولايات المتحدة والترليونات التي سيدفعونها قريباً كانت كفيلة بأن تحقق لهم زعامة في العالم العربي، إن استخدموها لتنمية البلدان العربية، وتعزيز مصادر قوتها، وتمنحهم من أسباب القوة ما لا تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه لهم. لو أنهم أنفقوا جزءاً من هذا المال على التنمية، والتعليم في العالم العربي لوجدوا كلّ أسباب الدعم، والقوة التي تؤهلهم لنيل احترام خصومهم لهم بدلاً من تلقي الإهانات العلنية، والابتزاز مرة تلو الأخرى. مع أن التاريخ العربي حافل بالأمثلة التي تبرهن على أن الانصياع للعدو مرة يجرّ بعد ذلك إلى المزيد من الانصياع والخنوع، وأن كلّ الاتفاقات التي أبرمت مع العدو بقيت حبراً على ورق لأنّ مبرميها من العرب لم يمتلكوا أسباب القوة التي تضمن تنفيذها. ومع أن العرب لديهم ما يسمى بالجامعة العربية، فهي لم تتمكن، بسبب الشقاق الخليجي المتواصل، من جمع قوة العرب وتحقيق موقف موحد لهم يضمن لهم اتفاقاً مشرّفاً، ويحقق لهم موقع قوّة في أعين الخصوم والأعداء. ورغم كلّ الاجتماعات واللجان العربية على مستويات ثنائية، أو متعددة فإن العمل العربي المشترك يبقى في أوهن صيغة بسبب ارتهان حكام الخليج لأعداء العرب.
لا بل لقد انتقل الخليجيون في السنوات الأخيرة إلى تمويل وتسليح إرهابيين ليفتكوا بالبلدان العربية الواحدة بعد الأخرى لصالح مخطط إسرائيلي يهدف إلى هيمنة إسرائيل على نفط ومقدرات العرب غير مدركين أنهم يحفرون قبورهم بأيديهم، وأن طمع الأميركيين، والإسرائيليين بهم وابتزازهم لهم قد تضاعف عشرات المرات بعد أن أضعفوا دول القوة العربية: العراق، وسوريا، ومصر، وليبيا، والسودان، واليمن. سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا فإن حروبهم الإرهابية على أشقائهم العرب قد زلزلزت مكانتهم في أعين الطامعين وجعلت ثرواتهم لقمة سائغة للأعداء، والمحتلين، والمستعمرين لأنّ أعداء سوريا هم أعداء كل العرب. ولا شك أن استباحة العدو الصهيوني للدم الفلسطيني كل جمعة، وكل يوم هو استباحة لدم كل العرب وهو نتيجة هذا الانهيار في المنظومة العربية الناجمة عن فشل دول الخليج في العمل العربي المشترك في إدراة أمورهم بحكمة، ودراية، وعمق. وها هو وزير أمن الكيان الصهيوني أفيفدور ليبرمان يردّ على إدانة محمود عباس للمحرقة بالقول إنّ "اعتذارته ليست مقبولة." لو فكّر الخليجيون بالطريقة التي فكّر بها زعيما الكوريتين لأضطر ليبرمان أن يقدّم اعتذاره عن استهداف العرب كل جمعة، وكل يوم منذ قدومهم من أرجاء الأرض ليحتلوا فلسطين. متى سينفق الخليجيون وقتاً ومالاً على وضع الخطط الذكية، واستخدام الفكر العميق الذي يحبط أعداءهم ويزيد من عناصر قوتهم؟ ومتى سيواكبون المتغيرات العالمية والتي تقدّم النماذج الذكية في الحكم والعلاقات، ومواجهة الأعداء. أما محاربة الأشقاء والخضوع لابتزاز الأعداء فهي الحماقة عينها ولن تزيدهم إلا هواناً وضعفاً وذلاّ. بالفعل صدق من قال ما أكثر العبر وما أقلّ الاعتبار.