دليل استراتيجيّة الأمن القوميّ الأميركيّ
صدرت في شهر آذار/مارس الحالي، وبتوقيع من الرئيس جوزيف بايدن، استراتيجية الأمن القومي الأميركي للمرحلة الحالية، وذلك في 23 صفحة شملت كلّ المسائل الأساسية التي تحظى بالأولوية في سياسة الولايات المتحدة. وبعد قراءة النصّ أكثر من مرة، والتوقّف عند التكرار والتأكيد من فقرة إلى أخرى، لا يُخطئ القارئ المهتمّ بالاستنتاج إذا وجد أنّ الصين تشكّل الهاجس الأكبر لهذه الإدارة، وأنّ سياستها يمكن تلخيصها بمعاداة روسيا ومحاولة كبح جماح تقدّم الصين في النموّ، وخصوصاً في مجال التكنولوجيا والتقدّم العلميّ.
من جهة أخرى، تؤكّد الاستراتيجيّة التركيز على التعاون والشراكة مع الحلفاء عبر الأطلسي، وعلى توسيع قاعدة الناتو ودعوة كلّ الدول المؤمنة بهذا المسار للانضمام إليه في وجه الصين وروسيا. وقد تمّ اعتبار أن مجموعة "الناتو" هي الدول الديمقراطية والمروّجة للحكم الرشيد وحقوق الإنسان، بينما يعتبر كلّ من لا ينضمّ إلى هذا المسار أوتوقراطياً ومعتدياً. وقد تمّ وصف الحكم في الصين بأنّه أوتوقراطيّ، وفي روسيا بأنّه معتدٍ، وذلك قبل استخدام أوصاف لا تليق بأيّ دبلوماسي أو سياسي لوصف رئيس روسيا.
وأكّدت هذه الدراسة أنّها سوف تدعم تايوان وهونغ كونغ وشينجيانغ في وجه الصين، بذريعة دعم الديمقراطيات والتوجّهات الديمقراطية في العالم. إنَّ الانطباع الذي يصل إليه القارئ بين السطور هو الخوف الحقيقي من صعود الصين، إذ إنها ذُكرت 18 مرة، والخوف من أن يقدّم أنموذجها بديلاً حقيقياً للنظام الرأسمالي الغربي، بحيث تتبنّاه الشعوب وتقلع عن تبعيتها للغرب، ما يشكّل خطراً على استمرار الهيمنة الغربية وقدرتها على نهب ثروات البلدان والشعوب لتغذية نموها وسيطرتها والاستمرار في بسط سلطتها وهيمنتها على المؤسَّسات الدولية ومقدّرات الشعوب.
كما يصبح واضحاً للقارئ المتابع أنّ الغرب يشعر بتهديد حقيقيّ لنظام الهيمنة هذا، ويحاول في هذه الاستراتيجية أن يتلمّس الطرق والوسائل التي تكبح جماح منافسيه وتضمن استمراريته على القواعد والأسس ذاتها التي درج عليها منذ عقود، أي أنّ هذه الاستراتيجية تعتبر إلى حدّ ما بحثاً عن طريق خلاص من واقع بات يشكّل خطراً حقيقياً على استثنائية الغرب وتفوّقه في مجالات عدّة بعد قرون من نهب ثروات العالم واستخدامها لتغذية هيمنته وسطوته على الدول والبلدان في كلّ أنحاء المعمورة، ولكنّ هذه القراءة لمسار التاريخ هي قراءة مغلوطة، لأنّ النظام الرأسمالي الغربي فقد هيبته ومكانته بعد انكشاف الأسس الحقيقية التي يقوم عليها، ألا وهي تأجيج أوار الحرب وخلق الفوضى، من أجل السيطرة على مقدّرات الشعوب واستخدامها بما يعزّز نظامه الرأسمالي هذا.
كما انكشفت، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، حقيقة المقولات التي تطلقها النظم الغربية، من حرية الإعلام إلى حقوق الإنسان إلى الحكم الرشيد، وأظهر واقع الحال أنّ الإعلام في الغرب بوق للشركات الحاكمة ومصالحها، وأنّ حقوق الإنسان شعار يستخدم بحسب الحاجة، من دون أيّ حرص حقيقيّ على الإنسان وحقوقه.
وقد ساهمت الحرب الإرهابية على سوريا، بكلّ ما اعتراها ورافقها من نفاق غربيّ، كما ساهم انتشار "كوفيد 19" وعجز الغرب عن مضاهاة الصين أو روسيا في مواجهة الوباء، في الكشف عن حقيقة النظم الغربية التي تستخدم الإعلام بشكل مدروس وسخيّ كي تضخّم مقدراتها وتقزّم قدرات الآخرين وإمكانياتهم.
ومع انطلاق الإعلام في روسيا والصين ونفاذه إلى الغرب ومنصات الأمم المتحدة والعالم، بدأ يكشف حقيقة الزّيف الذي اعتمده الإعلام الغربي على مدى قرون من أجل الاستمرار في تحكّمه بحقيبة المال والرأي في العالم برمّته. ولذلك، وفي وجه هذا الانكشاف المدوّي والخطير، لجأت الدول الغربية إلى استخدام أدواتها، من سكّان محلّيين في بلدان مختلفة تشتري ضمائرهم بالمال، إلى التابعين الذين خلقوا مبهورين بالغرب وأنموذجه، ولم يتمكّنوا من التحرّر من هذا الوهم، فاستمرّوا في غيّهم وخدمتهم للأنموذج الغربي، ظنّاً منهم أنّه الأفضل في العالم، لأنّ الاستعمار دخل إلى عقولهم ولم يكتفِ باحتلال الأرض. وحين رحل جسداً، ترك وراءه عقولاً مستعمَرَة ومستعدّة لأن تنفّذ أوامره، لأنها ترى فيه السيد الذي يحسن التفكير والأداء ولا يخطئ، كما ترى شرفاً كبيراً في الانقياد له والانصياع لأوامره.
على عتبة هذا الواقع الذي أفرزته الإدارة الأميركية الجديدة، نرى أنّ العالم يتّجه إلى حرب باردة ساخنة من نوع جديد، لأنّ أحد الطرفين، وهو الغرب الرأسمالي، يعتبر أنها معركة وجود، وأنّ صعود الصين وتمدّد روسيا يعتبران خطراً وجودياً عليه، ولا بدّ من أن يستجمع القوى والتحالفات والشركاء لتغيير وجهة هذا الواقع الجديد.
وبما أنّه لن يتمكن من تغيير وجهة التنين الصيني، كما أنّه لن يتمكَّن من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فإنّ الساحة الدولية مرشّحة لخوض تجاذبات خطيرة لا يعلم أحد بعد الأثمان الخطيرة التي سيتمّ دفعها نتيجة لها، ولكنّ هذه الأثمان سيدفعها أبناء البشرية جمعاء، لأننا جميعاً نتقاسم العيش على هذا الكوكب، بخلاف النظرة الفوقية الغربية التي تعتبر وجودها ورفاهها الضامن الأساس لبقية البشر الذين يجب أن يكونوا تابعين لها.
من الواضح أنّ الاستراتيجية الأميركية التي تقود كتلة عبر الأطلسي و"الناتو" تعتبر ذاتها استثنائية في الرؤى والقوة والتفكير، وأنّ كلّ من يخالفها الرأي والتوجّه هو أوتوقراطيّ أو معتدٍ لا حلّ لديه سوى أن يعود إلى سبيل الرشاد أو أن يقتل أو يخرج من حلبة الصراع. إنها مفاهيم خطيرة على العالم برمّته، ولا بدّ من فهمها بوعي وأناة، كي يتمّ التصدّي لها بحكمة ورباطة جأش وتعاون وتحالف، لإنقاذ البشرية جمعاء من أي أخطار حقيقية محتملة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً