ملامح العالم الجديد
وسط الصّخب والجلبة اللذين يعتريان العالم على أكثر من صعيد وفي مواضيع مختلفة، ربما ليس من السهل أبداً أن نتابع الخطّ البياني لاختلاف المواقف السياسية لأيّ بلد من البلدان لأنّ المشهد معقّد ومتشابك ومتذبذب أيضاً، لكن ومع ذلك فإنّ حضور الصين على المستوى الإعلامي العالمي قد سجّل ارتفاعاً مضطرداً في الأشهر القليلة الماضية.
فقد أصبح الناطقون الرسميون الصينيون يشكّلون جزءاً من الحضور الإعلامي اليومي، كما أنّ المسؤولين الصينيين يقفون بالمرصاد لكلّ تصريح وتصرّف يغمز باتجاههم صراحةً أو ضمناً بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
ومن الواضح اليوم أنّ الصين باتت تشكّل هاجساً حقيقياً للرئيس ترامب وللمعنيين في الولايات المتحدة، وكأنّ فيروس كورونا أسقط القناع عن القلق الذي كان يعتري الولايات المتحدة من الصين، لأنّ أداء الصين في مكافحة هذا الوباء قد سجّل تميّزاً تقنياً ومجتمعياً وسياسياً وأخلاقياً لم تتمكن أيّ دولة في العالم أن تقاربه.
فللمرّة الأولى تُصدر وزارة الخارجية الصينية تقريرها: "Reality Check" تدقيق واقعي لادّعاءات الولايات المتحدة حول فيروس كورونا؛ بحيث إنها فنّدت هذه الادعاءات واحدةً تلوَ الأخرى، وبرهنت بما لا يقبل الشكّ أنّ كلّ التهم التي تكيلها الولايات المتحدة لها من تسرّب الفيروس من مختبرات ووهان، إلى التستّر على انتشاره، إلى التقصير في دقّ ناقوس الخطر للعالم، إلى قتل الطبيب الذي أعلن عنه، أنّ هذه التهم جميعها لا تستند إلى أيّ حقيقة واقعية، وأنها تُهم ملفّقة تماماً، وأنّ الصين منها براء.
ومع ذلك لم يكتفِ ترامب حتى في مؤتمره الصحافي الأخير يوم الجمعة في 29 أيار/مايو من إعادة ترديد بعض هذه التهم، وتحميل المسؤولية للصين، وكأنه لا يسمع إلّا الصوت الذي ينطلق من رأسه ومن رؤوس شركائه في الاستهداف والمنظور.
ولكنّ عدم ثقته حتى بما يدّعيه تظهر في تحريكه ملفات أخرى ضدّ الصين، وعلى رأسها مسألة تايوان وهونغ كونغ؛ إذ تحاول الولايات المتحدة أن تجعل من تايوان عضواً في منظمة الصحة العالمية لمقارعة الصين، كما تحاول أن تتدخّل في شؤون هونغ كونغ مع تهديد المملكة المتحدة بمنح إقامات دائمة لأهالي هونغ كونغ، وبهذا فقد اكتمل المثلث الغربي في التدخل بشؤون الصين الداخلية وتلفيق التهم لها سواء بحجّة كورونا أو تايوان أو هونغ كونغ، وتتّضح الرسالة هنا أنّ الخوف من الصين هو الأساس في تسمية المواضيع، وأنّ الهدف الوحيد هو محاولة إضعاف الصين، ومنعها من أن تكون قطباً عالمياً أساسياً يوازي أو يفوق بأهميته الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي آخر مؤتمر صحافي، أشار ترامب إلى أنه قد يفرض عقوبات على المسؤولين الصينيين إذا لم يأخذوا بالاعتبار تحذيرات الولايات المتحدة لهم.
وهنا يبرز الموضوع الأهمّ في هذا السياق: ماذا ستفعل الولايات المتحدة إذا ما حذت الدول المتضرّرة من العقوبات غير القانونية المفروضة عليهم حذوَ إيران، وبدأت تتحدّى هذه العقوبات القسرية، التي لا صبغة قانونية لها، ولا تندرج في إطار القانون الدولي والشرعية الدولية؟
لقد قامت إيران بسابقة ستشكّل نهجاً للدول الصاعدة والمتضرّرة من صلف وعدم أحقية عقوبات الولايات المتحدة على الدول لأنّ هذه العقوبات هي مجرّد مرآة للهيمنة والتسلط على قرار الدول المستقلّة، وكلّ ما تهدف إليه هو تجويع شعوب هذه الدول أو الضغط عليها بشتّى الوسائل لكي تغيّر من طبيعة الحكم فيها، وتستبدل المتمسّكين بسيادة بلدانهم وقرارها المستقلّ بآخرين متواطئين معها ومستعدّين أن يجعلوا بلدانهم رهينة للسيد الأميركي مقابل استلام السلطة، كما هي حال غوايدو في فنزويلا، وآخرين يشبهونه في البلدان التي تقع تحت مطرقة العقوبات الأميركية.
إنّ إرسال الجمهورية الإسلامية الإيرانية بواخرها إلى فنزويلا رغم العقوبات الأميركية يعتبر سابقة في غاية الأهمية، وملمحاً أساسياً من ملامح العالم الجديد سوف يتكرّر في مناطق أخرى في العالم، وقد يكون هذا هو الحلّ الأمثل لإظهار عجز الولايات المتحدة عن تنفيذ قرارات جائرة لا تستندُ إلى منطق أو قانون أو شرعة دولية، وكلّ ما تعبّر عنه هو الهيمنة الفظّة والإملاء على الآخرين بقوّة السلاح أو الاقتصاد أو التهديد والوعيد.
والحقيقة الساطعة هنا هي أنّ العالم قد تغيّر بالفعل، ولكنّ الذين يعتبرون أنفسهم سادته واعتادوا على نهب ثرواته وسلب الشعوب حقوقها في ثروات أرضها يرفضون الاعتراف بأنّه قد تغيّر، ويحاولون استجماع قواهم، التي تدهورت أيضاً دون أن يتمكّنوا من الاعتراف بذلك، للإبقاء على صورة المتحكّم في العالم.
فماذا يعني اليوم أن يدعوَ بعض الأوروبيين إلى وحدة الموقف الأوروبي، والدعوة للحوار مع الصين، بينما تتخذ الولايات المتحدة إجراءات يومية ضدّ الصين؟ هل يعتقد عاقل أنّ الاتحاد الأوروبي قادر على توحيد موقفه إلّا في فرض العقوبات على سوريا، فهذه هي الوحيدة اليوم التي نشهدها لعمل أوروبي ما عدا ذلك فقد انفرط عقد الاتحاد الأوروبي، وكان ذلك واضحاً جداً في مواجهة فيروس كورونا؛ إذ إنّ الصين وروسيا مدّتا يد المساعدة لعدد من الدول الأوروبية بينما لم نشهدْ مبادرة أوروبية تجاه أعضاء الاتحاد.
ولو اتخذت الدول المتضرّرة من العقوبات والدول الصاعدة مثل الصين وروسيا مبادرات مشابهة لتلك التي اتخذتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأصبحت كلّ هذه العقوبات التي تصدرها الولايات المتحدة وأوروبا بحقّ الدول والشعوب لا ترتكز إلى الشرعية الدولية، وليس لديها أيّ صفة قانونية، فلا شكّ أنه من حقّ هذه الدول ألّا تلتزم بها، وأن تسير بعلاقاتها مع الدول التي تقع عليها هذه العقوبات سيراً طبيعياً فتصبح هذه العقوبات حبراً على ورق.
إنّ الورقة الأساسية التي تتمكّن فيها الولايات المتحدة من فرض عقوباتها هي ورقة الدولار، ولكن إذا ما قرّرت هذه الدول تبادل البضائع مقابل بضائع أو مقابل الذهب أو مقابل عملات محلية، فإنّ سطوة الولايات المتحدة وقدرتها على تنفيذ هذه العقوبات ستتهاوى.
واللافت في الموضوع أنّ أصحاب القرار في الولايات المتحدة لم ينتبهوا إلى خروج المارد، وأنه لا يمكن لهم أن يعيدوا هذا المارد إلى حيث كان، كما لم ينتبهوا إلى تأثيرات أداء هذا المارد حتى على وضعهم الداخلي، فمع أنّ عدداً من كتّاب السلطة في الولايات المتحدة حاولوا أن يسيئوا لتجربة الصين في مكافحة كورونا، وأنها صادرت الحريات الشخصية، وأنّ الغرب يخشى على حرياته وديمقراطيته، فإنّ الحقيقة الناصعة هي أنّ الصين أبهرت العالم بنموذجها الكُفء وبالتزام شعبها بقرارات حكومته وبحرص هذه الحكومة على حياة كلّ من هو على أرض الصين من صينيين وأجانب، وعلى روح التطوّع والتفاني التي تحلّى بها شعب الصين، وعلى الاهتمام البالغ بإنقاذ كلّ حياة بشرية.
بينما بلغ عدد العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة قرابة أربعين مليوناً، كانت الصين توصل الطعام مجاناً لكلّ المحجورين في بيوتهم ومدنهم.
والمواطن الأميركي واكب كلّ هذه الحالات، وشهد أنّ ما يتعرّض له في بلده من عنصرية أو فقر أو بطالة لا ينسجم مع الادّعاء بأنّه يتمتّع بأفضل حقوق الإنسان في الدنيا، ومن هنا فإنّ مظاهرات وشغب مينيابوليس هي جرس إنذار من القاعدة إلى القمّة بأنّ العالم قد تغيّر، وأنّ الناس قد تغيّروا وأنّ الحكومات الغربية لا تستطيع أن تستمرّ بأساليبها العنصرية والقمعية سواء داخل المدن الأميركية وضدّ الأميركيين من أصل أفريقي، أو ضدّ شعوب ودول بعينها على الساحة الدولية.
لقد جدّد الاتحاد الأوروبي مؤخراً عقوباته على الجمهورية العربية السورية دون أدنى وجه حقّ، وفي هذا التجديد عدوان على لقمة عيش المواطن السوري ودعم مباشر للإرهابيين الذين استهدفوا سوريا، وفشلوا في استهدافهم، ولكنّ هذه العقوبات تصبح حبراً على ورق إذا ما تكاتفت القوى التي ضاقت ذرعاً بهذه الأساليب، وقرّرت ألّا تنفّذ هذه العقوبات، وأن تخترع السبل والطرائق لتبقي على علاقاتها الحيوية مع سوريا، وفي جميع المجالات، وينسحب هذا الأمر على كلّ حلفاء الدول التي طالتها هذه العقوبات.
أي أنّ المطلوب اليوم ليس مطالبة الغرب برفع العقوبات لأنه لن يرفعها، بل اجتراح السبل لتجاهل هذه العقوبات والإبقاء على التبادل التجاري والإنساني والعمل السياسي. إنّ هذا يعني الالتفاف حول الصين وروسيا وإيران والعمل مع الصين بالمنظومة المجتمعية والسياسية والأخلاقية والتي برهنت على مدى قرون أنّ الهيمنة لا تندرج في إطار قاموسها، وأنها تؤمن بخير البشرية جمعاء، وأنّ الرخاء يجب أن يعمّ على الجميع كي يدوم.
إنّ العالم على مفترق طرق اليوم، ولا شكّ أنّ "حزام واحد طريق واحد" هو أقصر الطرق وأفضلها لتشكّل هذا العالم الجديد على أسس مختلفة عن تلك التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية على أسس تقوم على الندّية واحترام الدول صغيرها وكبيرها، واحترام إنسانية الإنسان، والتخلّص من هذا النفاق والإعلام الكاذب الذي لا يمتّ إلى واقع البلدان والشعوب بصلة.
ولا شكّ أنّ ما قامت به إيران تجاه فنزويلا وما تقوم به الصين وروسيا يومياً من مقاومة الهيمنة والاستكبار يصبّ حصراً في هذا الاتجاه. فإلى غدٍ أكثر إشراقاً يشرق من الشرق.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً