كورونا والأزمة الكاشفة
أول ما يجب الاعتراف به في الحديث عن أزمة كورونا العالمية هو أن هذه الأزمة كاشفة بامتياز، كاشفة لحقيقة قوّة البلدان وأولوياتها وقدرة القيادة في هذه البلدان وعلاقتها بالشعب الذي تحكمه، ومدى تجاوب هذا الشعب مع أوامر قيادته واقتناعه بها. فقد قسّمت هذه الأزمة العالم وفق خطوط غير تقليدية أبداً وغير معروفة من قبل، وطرحت معادلاتٍ جديدة على الساحة الدولية، لا بدّ وأن تؤخذ بعين الاعتبار كي يتمّ إرساء الأسس السليمة للمرحلة المستقبلية المقبلة. فمن كنا نعتقد أنه قويّ أظهر علامات ضعف مؤكّدة لا جدال فيها، ومن كنّا نعتقد أن تصنيفه يأتي في آخر السلّم قفز إلى أعلى السلّم بقدراته التي لم نكن نعرف عنها شيئاً.
ولا شكّ في أنّ الإعلام الغربي المضلّل يتحمّل جزءاً كبيراً من مسؤولية هذه المفاجآت لأن الإعلام الغربيّ ما فتئ يكرّر مفاهيم لسنوات طوال حتى آمن الناس بأنّ هذه المفاهيم هي الحقائق بعينها إلى أن اصطدمت هذه المفاهيم اليوم بوقائع مغايرة تماماً على الأرض فتهشّمت. وهذا أيضاً مصدر أساسيّ من مصادر المفاجآت الكاشفة التي تتعرّض لها البشرية اليوم. فقد كان معظم البشر يعتقدون أنّ الولايات المتحدة، والتي ما زالت البلد الأقوى عسكرياً واقتصادياً، هي الأقدر اليوم على مواجهة أيّ جائحة أو وباء، وأنّ مؤسساتها وأساليب عملها ستكون النموذج الأهمّ في العالم، ولكنّ الواقع الحقيقي أظهر أنّ هذه الدولة القويّة ذات القواعد العسكرية المنتشرة في العشرات من دول العالم لا تملك إلّا نسبة ضئيلة مما تحتاجه من الأقنعة الطبية مثلاً، ولا تملك الألبسة الطبية لممرضيها، ولا اختبارات كافية لهذا الفيروس الذي ينتشر كالنار في الهشيم، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي سبّبها الحجر، وتسريح العمال والموظفين من أعمالهم، وتضخّم دائرة الفقر والعَوَز في بلد يعتبر من أغنى بلدان الأرض.
كما أنّ إيطاليا وإسبانيا قد فاجأتا العالم بعجز النظام الصحي في كلتيهما، وارتفاع نسبة الوفيات فيهما وفي الولايات المتحدة بشكل أثار دهشة العالم واستغرابه. بينما أبلت البرتغال واليونان مثلاً بلاءً ممتازاً نتيجة الإجراءات الاستباقية التي اتخذتاها، وتكاتف الحكومة والمجتمع لمواجهة هذا الخطر الداهم على الجميع.
وفي هذا المجال برهنت ألمانيا أيضاً اختلاف نظامها عن النظم الغربية من خلال تقديم الفحص مجاناً للجميع؛ الأمر الذي ساعدها على تخفيف حدّة الإصابات، واحتواء الجائحة إلى حدّ بعيد. ولكن ولا شكّ، فإنّ النموذج الأبرز والأهمّ في التصدّي لهذا الفيروس بخطوات متناسقة بين الحكومة والشعب والمؤسسات والعمل الطوعي هو الأنموذج الصينيّ، والذي أدهش العالم أولاً بحرص القيادة الصينية على وضع إنقاذ حياة البشر فوق كلّ اعتبار مهما كلّف ذلك الدولة من أعباء، كما أدهش العالم بالتقدم التكنولوجي الذي وصلت إليه الصين، والذي تمّ استخدامه بذكاء ومهارة بالغَين لاكتشاف انتشار الفيروس وحصر الحالات وتضييق دائرة الانتشار.
كما أدهشت الصين العالم باستعداد شعبها للتطوّع والتضحية ووضع المصلحة العامة فوق كلّ اعتبار، وكذلك بتصرّفها المسؤول دولياً؛ بحيث وضعت نتائج أبحاثها في متابعة الأصول الجينية لهذا الفيروس في خدمة علماء العالم من أجل توفير الوقت واستكمال الأبحاث التي توصل العالم إلى اختراع اللقاح أو الدواء. وكانت الخطوات الصينية المتّخذة دائماً متاحة للجميع كي يتعلّموا منها، كما منعت السفر إطلاقاً خارج البلاد.
وحين انتشر الوباء في إيطاليا وإسبانيا وغيرها قدّمت الصين وروسيا وكوبا المساعدات السخية لهذه البلدان لمساعدتها على احتواء الجائحة والحدّ من انتشارها. لا شكّ في أنّ هذا المسار للأحداث قد كشف للعالم أجمع شخصية جمهورية الصين كبلد متقدّم حديث، ومع ذلك محافظ على إنسانيته وعلى دوره على الساحتين الإقليمية والدولية كعامل مساعد للأسرة الدولية وكعنصر فاعل فيها لمواجهة هذا الخطر القاتل.
ولا شكّ في أنّ الناس في كلّ أنحاء المعمورة بدأوا بإجراء المقارنات بين القوة العظمى، وهي الولايات المتحدة والتي تحاول دائماً تشويه صورة الصين، وبين الصين التي تظهر للمرّة الأولى على الساحة الدولية بكلّ مقدّراتها، ليس فقط الاقتصادية وإنما التعبوية والإنسانية والأخلاقية والقيمية التي تحكم كلّ تصرفاتها وأعمالها. بالمقابل، فإنّ الولايات المتحدة وإلى حدّ اليوم لم تستجب لنداءات العالم لرفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعن الجمهورية العربية السورية، ودول أخرى أيضاً لتمكين هذه الدول من مواجهة هذا الوباء.
ومع أنّ المسؤولين في الولايات المتحدة يمارسون قوّتهم وسلطتهم لمنع الدواء عن هذه الدول، فهم لا يعلمون مدى خسارتهم الأخلاقية والقيمية، إذ لا يوجد عاقل في العالم يمكن أن يؤيدهم في استمرار هذه الإجراءات العقابية الظالمة أصلاً في الوقت الذي يعرفون فيه أنهم يسبّبون الموت لأناس أبرياء. وفي هذه الحال، وحالات لا تُحصى يُدرك الجميع في قرارة أنفسهم أنّ النظام الليبرالي يعيش أسوأ أزمات حياته وتاريخه، وأنّ الإعلام الغربي الذي كان يمجّد هذا النظام قبل كورونا لن يتمكّن من فعل ذلك بعد كورونا، وأنّ زمن كورونا قد يكون الإنذار الحقيقي لصلاحية الأنظمة الليبرالية، والتي برهنت خلال هذه الفترة أنها غير جديرة بأن تكون مؤتمنة على حياة البشر، وخاصةً الفقراء منهم.
ولعلّ إدراك مراكز الأبحاث الغربية لعمق هذه الحقيقة وأهميتها والتي ستزداد حضوراً في كلّ الساحات العالمية، هو الذي دفعها إلى تحويل الأنظار عمّا يجري في بلدانها، واختلاق التهم للصين، ورفع الدعاوى القضائية على الصين بذرائع وحجج واهية لا تصمد أبداً أمام المنطق السليم. وبدلاً من التركيز على نقاط ضعفها، والتي جعلت الولايات المتحدة الرقم الأول في عدد الوفيات، تلقي بأخطائها على الآخرين، وتحاول التعرّض للصين من خلال مسارين،الأوّل هو اتهام الصين بالمسؤولية عن انتشار الوباء، والثاني هو محاولة سحب الصناعات الأميركية من الصين كي يسهل استهدافها، وفي الحالتين وقبلهما بكثير، من الواضح أنّ مسؤولي الولايات المتحدة قلقون، وعلى مدى السنوات الأخيرة من التقدّم المطّرد الذي تحققه الصين في المجالات كافة، وخاصة في مجال التطوّر التكنولوجي والـ 5G على وجه التحديد. والسجالات الأميركية مليئة بمقولة: الصين هي العدوّ. وحتى حين تتمّ مقابلة مسؤول في الكونغرس السؤال عن الصين هو سؤال أساسي لمعرفة موقفه من هذا الموضوع الأساسي الذي يشغل بالهم.
لا شكّ في أنّ البشرية اليوم على مفترق طرق، وفي الوقت الذي يصارع فيه معظم دول العالم للتخلّص من هذا الوباء، فإنّ الأمر الذي لا يقلّ أهمية هو إلى أين يتّجه العالم بعد القضاء على هذا الوباء؟ هل سيتّجه إلى الإفادة من الدروس التي وفّرتها هذه الأزمة، بحيث يعكف كلّ بلد أو طرف على معالجة نقاط ضعفه، وترميم جدرانه التي توشك على الانهيار؟ أم سيحاول إنكار الواقع والعودة إلى المكابرة والتضليل الإعلامي والذي دفعت البشرية ثمنه أرواحاً بريئة وفي أكثر من مكان، وإلقاء عبء المسؤولية على الآخرين، والدفع باتجاه حروب كي تغطّي نقاط الضعف هذه، وتشغل أذهان العالم بمعارك مصطنعة هدفها الهروب من الواقع وعدم مواجهته؟ إذا كانت المراجعة ضرورية في هذه المرحلة، فيجب أولاً مراجعة قرارات الحرب غير المشروعة، والتي دمّرت بلداناً بكاملها من أفغانستان إلى العراق وليبيا واليمن.
وإذا كان هناك من عدالة على الأرض، فيجب أن نرى هذه الشعوب البريئة والتي لم تقترفْ ذنباً تنال حقّها، كما يجب أن نرى وقف أسلوب العقوبات وتهديد سيادة الدول وسلامتها، سواء من خلال أدوات إرهابية مصطنعة، كما كانت الحال في سوريا وليبيا واليمن، أم من خلال التهديد المباشر لفنزويلا دولة وحكومة وشعباً اليوم، وللجمهورية الإسلامية الإيرانية أيضاً. وعلى الولايات المتحدة دفع تعويضات لضحايا حروبها الإرهابية والاقتصادية على سوريا والعراق وليبيا واليمن وكوبا وإيران وفنزويلا.
إذا كانت هناك دروس مستفادة يجب أن نستخلصها من أزمة كورونا الكاشفة، فهي أولاً وقبل كلّ شيء دروس يجب أن تعيد الاعتبار إلى كرامة الإنسان وإلى المنظومات القيمية والأخلاقية التي تعزّز سيادة الدول وكرامتها، وأن تُنتزع القدسيّة عن الإعلام الغربيّ الذي ينشر الأوهام عن النظم الليبرالية الغربية، والذي برهن خلال هذه المحنة أنه لا يتقن إلّا فنّ صناعة الثروات، وأنّ البشر والذين هم خلائف الله على الأرض يقعون في أدنى سلّم اهتماماته. في الوقت الذي أشرقت فيه شمس الصين على العالم من خلال هذه المحنة، وأظهرت التزاماً أخلاقياً ومجتمعيّاً، وتقدّماً مهنياً وتكنولوجياً، ومواكبة عراقة الحضارة لتسخير آخر مبتكرات الإنسان لإنقاذ حياة البشر وتأمين صحتهم وسلامتهم، لن يتمكّن أحد من إطفاء هذا الضوء الساطع. ومن العبث الانشغال بترّهات محاسبة أو محاولة تهميش ما أثبت الواقع أنّه حقيقة أكيدة ومقنعة، وفي هذا الإطار تبدو الحاجة ماسّة إلى تعاون دولي غير مسبوق يناقش كلّ هذه المعطيات والمستجدات، ويرسم خارطة طريق لتعاون دولي مستقبلي يستند إلى الرّكائز الواقعية التي أفرزها زمن كورونا بعيداً عن الإعلام الغربيّ المضلّل، وادّعاءات الديمقراطيات الليبرالية الغربيّة، التي استنزفت أسباب وجودها، وأصبحت الحاجة ملحّة اليوم إلى اجتراح نظام عالمي جديد تسوده الحكمة والإنسانية، وليس المال والثروات المادّية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً