مراجعة ومكاشفة!
لم يتوقّع أحد أن يبدأ خطاب القَسَم لمرحلة مقبلة بالتركيز على كشف الأسباب التي مكّنت الأعداء من النفاذ إلى ما بين ظهرانينا والمصارحة بالثُّغَر التي عانى جرّاءها الوعي المجتمعي، والذي يجب أن يكون معيار قوتنا وأداتنا الأساسية في تحدي الصعاب. لم يأتِ السيد الرئيس، في هذا الصدد هذه المرة، على مؤامرات الخارج وتكاتف قوى الشرّ والعدوان على سوريا، بل حاول استخلاص الدروس من الأحداث المتعلقة بواجبات المواطن تجاه وطنه، وتمسكه بثوابته، على الرغم من كل المتغيرات والظروف.
وفنّد خطورة الحرب التي شنها الأعداء علينا، نفسياً وإعلامياً، خلال عشر سنوات، مؤكداً أن الانتماء هو الحصن الذي يحمي الوطن مهما عتت التحديات. حاول أن يَفرز الغثَّ من السمين في المفاهيم والمسلّمات التي تُطرح في الساحة من خارجها كل يوم. وربما ليست مصادفة أنه بدأ بالتعبير عن إجلاله المعلِّمين لأنهم صُنّاع الأجيال، وزارعو بذار المستقبل الأفضل.
قد تكون إحدى أهم مشكلات العرب أنهم لم يكتبوا أحداث تاريخهم بدقة، ولم يعكفوا يوماً على مراجعة هذه الأحداث واستخلاص الدروس المستفادة، كي تتعلم الأجيال القادمة من الأخطاء، وتتجنب الوقوع في الثُّغَر، وتعمل على تصحيح المسار حيثما كان ذلك ممكناً. لكن هذه المراجعة عملية معقَّدة، وتحتاج إلى الجرأة والثقة بالنفس، والنظرة الاستراتيجية المدى.
كما أن بناء المفاهيم الوطنية الصِّرف يعني التخلص من المناطق الرمادية التي يتم فيها الخلط بين الثوابت ووجهات النظر، ويعني أيضاً الشفافية والحسم في المفهوم والعمل والتخطيط. هذه المراجعة اليوم تعني أن نفهم بدقة اللغة والمفاهيم المصدَّرة إلينا، والتي تستهدفنا أولاً وأخيراً، وأن نتخذ منها موقفاً ونستبدل بها مفاهيمنا نحن، ومرجعياتنا نحن، من دون وجل أو تردد. وهذا يعني، فيما يعنيه، تجاوز الظروف الراهنة مهما كانت صعبة أو متبدّلة، والانخراط في الرؤية الواضحة والواثقة، لنفرز من خلالها الخطوات الضرورية لتغيير هذا الواقع على نحو يحقّق الطموح ويوجّه دفَّة المستقبل.
في الثوابت، أن الخيانة والارتماء في شِباك المخابرات الأجنبية لا يجوز أن يلبسا لبوس المعارضة، لأن المعارضة، في المبدأ، يجب ألاّ تقل وطنية وحرصاً وانتماءً عمّن يستلمون مقاليد الأمور. أمّا الخيانة فهي الجريمة القصوى، التي يمكن أن تُرتكب بحق الأوطان. وعلينا أن نعرّيها ونفضح آثامها في كل زمان ومكان.
متى يمكن للمواطن أن يكون واضحاً وصُلباً في مفاهيمه ومرجعياته وأعماله؟ فقط حينما يحسم خياراته، ويؤمن بأن الوطن يأتي أولاً وثانياً وثالثاً وإلى ما لا نهاية، وأن الوطن يعلو ولا يُعلى عليه، وأن إرادة العمل ليست مرتبطة فقط بالنتائج الآنيّة، بل مرتبطة بأن تبقى في حلبة السباق. وحتى إن لم تربحه، فعليك الاستمرار فيه، لأنه الرهان الوحيد الذي يجنّبك الخذلان والخنوع.
ينسحب مفهوم الإرادة والانتماء هذا على مفهوم الانتماء إلى العروبة، على الرغم من كل الظروف الصعبة التي تعيشها البلدان العربية قاطبة، وعلى الرغم من الانهزامية التي أصابت كثيراً من العرب، وانعدام الثقة لديهم بقدراتهم واحتمالات مستقبلهم. ومع ذلك، تبقى العروبة هي الخلاص الحقيقي للعرب جميعاً، لأنه لا يمكن لأي بلد عربي أن ينهض بمفرد.، وكل الشعارات المندسّة والمنادية بالنأي بالنفس، أو التركيز على الذات، وإعطاء الأولوية للقُطر، كأن الامتداد العربي عبء، هي مفاهيمُ وتخرّصات الأعداء لمنع نهوض بلداننا، والإبقاء علينا في دائرة العجز وانعدام الحيلة. وإذا نظرنا وقارنّا بين المفاهيم التي يصدّرها خصومنا إلينا، وتلك التي يعملون وفقاً لها، فإننا نلحظ قمة التناقض.
ففي الوقت الذي يبثّون في كل بلداننا ضرورةَ التخلي عن قضايا العرب، من فلسطين إلى ليبيا وسوريا واليمن والعراق، نجد أن أعداء العرب يشكّلون تحالفات مستمرة في جميع المجالات، ويستمدون قوتهم من التنسيق والتعاضد والتعاون فيما بينهم، بينما يحاولون تقسيمنا طوائفَ وأعراقاً وقبائل. وفي الوقت الذي ينفقون الوقت والمال والجهد لدعم ما يسمونه "المعارضة السورية"، لا يمكن لنا أن نتخيّل معارضة بريطانية تدعمها روسيا مثلاً أو حتى ألمانيا، لأنهم يصمون كل من يتعاون مع قوة أجنبية ضد بلده بالخيانة العظمى، إلاّ في حالتنا نحن، فهم يُدرجون هذه المفاهيم كأنها مفاهيم مقبولة، لكنها مقبولة فقط لنا في نظرهم، وليس لهم.
وعلى سبيل المثال أيضاً، تكتب الـ "بي بي سي" عن أطفال "الدولة الإسلامية" التي اخترعوها، والمسجونين في مخيم الهول في سوريا، من دون أن تذكر أن هؤلاء الأطفال هم نتاج الإرهابيين الذين صدّرتهم إلينا الدول الغربية والتي تآمرت على سوريا، ليعيثوا فساداً في أرضنا، وليرتكبوا أفظع الجرائم بحق شعبنا.
هل يمكن لنا أن نصف المراجعة إذاً بمحاولة تنقية للمفاهيم من كل الأفكار المُغْرضة والمندسّة علينا من الخارج، ومحاولة تحليل الأحداث وفهمها وفقاً للمرجعيات الوطنية الحصرية، ولِما يخدم مسيرة هذه الأمة ومستقبلها؟ وهل يمكن، إذاً، أن نصف المرحلة الحالية بمرحلة استخلاص العِبَر والدروس والبناء عليها، كي لا يتمكّن أحد من النفاذ إلينا مرة أخرى، وكي نبني المستقبل على أسس متينة، وفق أفكار ومفاهيم وأيدٍ وطنية خالصة؟ أيْ، هل نتحدث اليوم عن حقبة الاستقلال الحقيقي؛ الاستقلال، ذهنياً وعاطفياً ومفاهيمياً، عن الأعداء الذين رحلوا منذ عشرات السنين عن أرضنا، لكنهم تركوا إرثاً آمن به البعض ودافع عنه، فأثقل كاهل الجميع، وشكّل عقبة دائمة في طريق التحرر الحقيقي من ربقتَي الاستعمار والاستعباد.
هل من المُخجل أن نتحدث عن ضرورة الاستقلال الثقافي بعد ستين عاماً من الاستقلال السياسي؟ أم أن ذلك أصبح ضرورة، وأن المخجل أكثر هو أن نستمر في التغاضي عن مشكلات جوهرية في مجتمعاتنا، تتسبّب بكارثة تلوَ أخرى، وبنكسة تلوَ النكسة، لأننا لا نريد الاعتراف بحقيقة ما ينغّص عملنا ويقف عثرة حقيقية في طريق تطورنا؟
منذ منتصف القرن الماضي، حين نالت معظم الدول العربية استقلالها من الاستعمار الغربي، وجميع العرب مستمرون في الدوران في فلك النظم التي استعمرتهم، سواء أكانت بريطانيا أم فرنسا، غير قادرين ـ أو غير راغبين ـ على فك عرى الوشائج التي عمل المستعمر على إرسائها، ليس فقط في النظم والقوانين والأعراف، وإنما أيضاً في العقول والقلوب، حيث تكمن الخطورة القصوى.
لقد نهضت الصين حين اتخذت قراراً استراتيجياً واضحاً، مفاده أنها سوف تعمل على شاكلتها، متجاهلة تماماً الدعوات إلى ديمقراطية ليبرالية غربية، وإلى تعددية حزبية، فتمسّكت بنظامها الاشتراكي وحزبها الوطني، ووضعت الخطط، وشحذت الهمم، وانطلقت إلى الإنتاج والإنجاز من دون أن تعير اهتماماً لما يسطّره الآخرون عنها من تُهَم ومفاهيم تحاول أن تضرب أسس الثقة بالنفس. وازدادت عزيمة الصين وتصميمها على استقلالية مسارها، بعد أن شهدت كل الألاعيب والاختراعات الغربية، التي قادت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، والمعاناة التي خلقها هذا الانهيار لشعوب دوله، والتي ما زالت ارتداداتها تخلق الصعاب لهم، وتقف عقبة كأداء في طريق تقدمهم.
حين حسمت الصين خياراتها باستقلال حضاري ثقافي مفهوماتي، تمكّنت من العمل والبناء والإنتاج والتقدم الحثيث. فهل هذا هو اليوم الذي تستخلص فيه سوريا الدروس كي تسير في مسار مشابه يترجم الاستقلال إلى رفضٍ لكل مفاهيم الارتهان التي يصدّرها إلينا الإعلام الغربي، الناطق بالعربية، ولكل الاختراقات التي لا يكلّ الأعداء عن دسّها بين صفوفنا؟ وهل تحوّل سوريا، في هذا المسار، المحنة إلى فرصة، كي تقدم أنموذجاً في الإدارة والعمل والاستقلال الحقيقي، المؤسّس لمرجعيات وطنية عربية لا تخطئ الهدف، ولا تفرّط بذرة تراب مهما طال الزمن، ولا تتخلى عن الأخوة في اللغة والتاريخ والجعرافيا، ولا عن الحلفاء في العقيدة والأخلاق والمبدأ والأهداف؟
جميل أن ننتصر عسكرياً، وأن نحرر أرضنا، وجميل أيضاً أن نعمل على تحرير النفوس من كل مفردات التبعية التي غرسها المستعمر الغربي، كي يمنع علينا الانتصار في معركة البناء والتطوير.
بعد التضحية لكسب الحرب التي شنها المستعمرون الغربيون، علينا أن نبدأ نحن، بإرادة صُلبة، حرباً على كل الثُّغَر والمخلَّفات التي سمحت لهم بالنفاذ إلينا من بوابات أخرى، فنغلقها بأيدينا، ونعكف على تطوير أنفسنا، وبناء المستقبل الأفضل لأجيالنا.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً