امريكا و الصين..آلية إعلامية سياسية.
كنت سعيدة جداً حين قرأت في 2/3/2021 أن المكتب الإعلامي لمجلس الدولة الصيني سيصدر في المستقبل القريب تقريراً عن انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة في 2020، وأن هذه الوثيقة ستعرض اضطراب الديمقراطية الأميركية الذي أثار الفوضى السياسية، والأقليات العرقية التي تعاني من التمييز العنصري، والاضطراب الاجتماعي المستمر الذي يهدد الأمن العام، والاستقطاب المتزايد بين الأغنياء والفقراء ما أدى إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية. كما أن الوثيقة لن تغفل حقيقة أن الولايات المتحدة ضربت عرض الحائط بالقواعد الدولية ما أسفر عن كوارث إنسانية.
كنت سعيدة لأن هذه الخطوة تمثّل الانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم مستذكرين القول الحكيم أن "الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع"؛ فبالرغم من الاختلاف الواضح بين المعايير القيمية والأخلاقية بين الولايات المتحدة والصين، لصالح الصين طبعاً، فإن الولايات المتحدة تبقى في موقف المهاجم والمدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الشعوب سواء في الصين أو روسيا أو سورية أو إيران أو فنزويلا أو أي مكان في العالم.
وفي هذا الصدد أيضاً كتب السفير الصيني في سورية السيد فيانغ بياو مقالاً هاماً في جريدة الوطن السورية بعنوان "تلفيق التهم بنيّة خبيثة.. الهيمنة التي لن تجد صدى" وذلك بتاريخ 1/3/2021 يفنّد به مقال كاريث بورتر وماكس بلومنتال عن إقليم شينجيانغ الصيني حيث برهن أن المقال مليء بالتناقضات ومجافٍ للواقع والحقيقة ولكن بأسلوب مهذب ومقنع وسرد مليء بالحكمة الصينية القديمة والحديثة. وهو محق حين أكد أن الحقيقة ستبقى حقيقة وأن الورقة لن تستر الحريق. ومقال السيد فيانغ بياو مليء بالأرقام التي تثبت كلّ عبارة يكتبها وكلّ حكم يطلقه، على عكس أسلوب من يوجّه التهم للصين؛ ذلك الأسلوب المليء بالظنون والشكوك والاشتباهات.
وفي السياق ذاته تحدث وزير الخارجية الروسي السيد سيرغي لافروف في مؤتمر صحفي في 3/2/2021 عن تعمّد الغرب إظهار بعض أوجه القضية وإخفاء الأوجه الأهم فيها والتي لا يعرفها أو لا يتذكرها جمهور القراء، وكيف أن التغطية الإعلامية لأي معارض روسي تتسم بالنفاق وتركز على ردود أفعال الشرطة، بينما لا يعرف القراء والمشاهدون أن القوانين الغربية في التعامل مع المتظاهرين أشدّ قسوة من القوانين الروسية، ناهيك عن القول أن الضجة التي أثارها الغرب في قضية نافالني تندرج أصلاً ضمن التدخل في الشؤون الداخلية للدول والذي هو أمر غير مسموح به حسب القوانين والشرعة الدولية.
وكان ختام مؤتمر لافروف جديراً بالاقتباس المطوّل لغرض الفكرة التي أحاول معالجتها هنا؛ إذ قال لافروف: "أنا أتفهم الذين يريدون من روسيا أن تكون أكثر حزماً في ردها على القادة الغربيين. في ثقافتنا السياسية والدبلوماسية لسنا معتادين اللجوء إلى كلام غير مؤدّب، نحن شعب مؤدّب ومعتادون على تحقيق أهدافنا بطريقة حضارية ومتحضرة، وكما نقول فإن الله ليس في القوة ولكن في الحقيقة، ولدينا أيضاً مثل جيد من المفيد أن نتذكره وهو أن: العسل حلو ولكن النحلة تلسع. هؤلاء الذين يفسّرون تصرفاتنا المؤدبة على أنها مؤشر ضعف يقترفون خطأً كبيراً".
كل هذه الأمثلة تُري اختلافاً في الثقافة والأخلاق بين الشرق والغرب لصالح الشرق طبعاً، ولكن هناك أيضاً اختلاف في آليات العمل والترويج والتكتيك وأسلوب المعالجة الذي تبناه الغرب منذ عقود والذي مازال الشرق يفتقر إليه وهذا هو بيت القصيد مما أكتبه اليوم؛ فلدى الغرب مئات مراكز الأبحاث التي تقوم بمهامها في طرح الأفكار وإثارة الجدل وخلق التعمية بحيث لا يصبح من السهل على القارئ العادي أن يفرز الغث من السمين وأن يقرر أي خبر هو المهم وأي تحليل هو الأهم.
ثم إن هذه المراكز وأدواتها تقوم بتصنيع المصطلحات والأفكار ولديها آلة تسويقية تعمّ العالم وتعمي الأبصار لدى البعض، كما أنه لديها أدواتها المرتهنة لها لسبب أو لآخر والتي تقوم آلياً بنشر ما يتم تصديره لها على أوسع نطاق، كما أنها تتناول الخبر أو ما تريد الترويج له من مناحي مختلفة وبأقلام مختلفة وتعيد وتكرّر به، بينما لدى الشرق اعتقاد بأنك قلت الحقيقة مرة وأن العالم سمعها ولابد أنه فهمها وسوف يتصرف وفق هذا الفهم؛ فالآليات الإعلامية المتبعة في الغرب لا تقيم وزناً للحقيقة ولكنها تركز على كفاءة الترويج لما يتم طرحه، وإذا أخذنا مثالاً قضية شينجيانغ الصينية أو قضية نافالني الروسية، ومع أن كلتا القضيتين تم تشويههما في الإعلام الغربي وبثّ الأكاذيب والتدخلات غير المشروعة أبداً في قضايا داخلية، فإن حجم الإعلام الغربي الذي تناول هاتين القضيتين حجم كبير جداً حتى بالمقارنة مع الإعلام الصيني والروسي الذي حاول صدّ هذه الهجمات أو تفنيدها.
مازلنا في الثقافة الشرقية المؤدّبة؛ كلّها تعتمد على الحق والحقائق بينما يعتمد الغرب على الترويج والتسويق الماهر للأكاذيب حتى تنطبع في أذهان المتلقين وكأنها حقيقة. ولذلك نجد الترويج للأخبار التي تؤكد هيمنة الغرب وما يسمى بـ"ديمقراطيته"، ولا يقابل هذا ترويج هام وعلمي وحقيقي لأي مستند لحقوقنا والحقائق المنبعثة من أرضنا والتي لا يرقى إليها الشك.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قررت محكمة العدل الدولية أخيراً وبعد عقود النظر في الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وبقي هذا الخبر يتيماً يجب أن تبحث عنه بينما لو كان خبراً لصالح الدوائر الصهيونية لانشغلت به وسائل الإعلام ليل نهار وفي كل مكان وزمان.
هل يعقل أن خبراً بمثل هذه الأهمية بعد نصف قرن من الجرائم والارتكابات الشنيعة بحق شعب بأكمله لا يصمّ آذان العالم لأهميته وللتسويق للحق الفلسطيني من خلاله؟!
ما علينا أن نركز عليه اليوم إذاً في الصين وروسيا وفلسطين وسورية وإيران وفنزويلا هو آليات العمل الإعلامية والسياسية وأهمية مراكز الأبحاث وأهمية صياغة وصناعة الخبر من قبلنا، والانتقال أيضاً للهجوم وليس الارتكاز إلى الأساليب المؤدبة في الدفاع، وفي هذا الصدد أن يتمّ وضع ما يجري في الغرب تحت المجهر وأن يتم إلقاء أضواء كاشفة على العنصرية الغربية والعنصرية الصهيونية التي مازالت تمارس أبشع أنواع العنصرية ضد السكان الأصليين في كلّ مكان. هل يعقل أن تردّد الولايات المتحدة على مدى عقود أنها معنية بأمن "إسرائيل" في المنطقة دون أن ترتفع أصوات تصمّ آذانها عن أهمية العرب جميعاً وأن من يحاول تحقيق أمن "إسرائيل" لابد أن يرى الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وتحقيق الأمن لهم وإلا فلا أمن لمعتدٍ ومحتل وإرهابي على حساب أمن الآخرين ومصيرهم.
هنالك حجم تفكير وعمل كبيرين على المستويين الإعلامي والسياسي، وأنا سعيدة أن الصين بدأت وعلينا التعاون والتكاتف والاستمرار في هذا المسار إلى أن تنقلب المعادلة الحالية وتصبح الغلبة للحقّ والحقائق في الإعلام والسياسة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً