نتائج أوليّة لكورونا
تأبّطت سنة 2020 مفاجآت كثيرة غير سارة يقف على رأسها اليوم وباء كورونا الذي حلّ ضيفاً ثقيلاً على صدور العالمين حيث إن العالم ينام على واقع ويستيقظ على واقع مختلف لا يمكن التنبؤ به نتيجة تبدّل الأحوال والإجراءات الضرورية لمواجهتها.
حين ظهر هذا الفيروس في الصين أخذ بعض الجهلاء والعنصريين يتناولون بصِغَر أكثر شعوب الأرض احتراماً للذات وللآخر. حينذاك كتبتُ: "ماذا كان سيحدث لو أن هذا الفايروس انتشر في دول أخرى؟ لأنّ الصين واجهته بتخطيط وذكاء وعزيمة ووحدة مجتمعية ومهنية لا نظير لها في الكون". واليوم وبعد أن تمّ الإعلان أن أوروبا هي البؤرة الأساسية لهذا الوباء وبعد أن انتشر في ولايات أميركية أيضاً يمكن لنا أن نجري مقارنات حول الاستعدادات وبوادر المواجهة الأساسية وإن كان هناك مجال للعودة إلى هذا الموضوع مجدداً بعد حين؛ فما إن دقّ جرس الإنذار في دول أوروبية حول تفشي فايروس كورونا حتى بدأت الصيدليات تفرغ من المعقمات، ومخازن الطعام تفرغ من الطعام لأن الجميع أراد أن يخزّن ما يضمن له ولأسرته البقاء خلال الأزمة المحدقة المقبلة حكماً، بينما في الصين كان يصل الطعام المجاني إلى الملايين الموضوعين تحت الحجر، كذلك كانت تُقدّم الخدمات الطبية للمواطنين مجاناً، كما تم بناء مستشفى من 22 ألف سرير خلال عشرة أيام.
واليوم الصين تتعافى وترسل طائرة من المعونات الطبية والأطباء إلى إيطاليا كما تعلن عن استعدادها لمساعدة دول أخرى منكوبة بالفيروس ذاته. وهنا نرى الفرق الهائل بين تصرّف الصينيين والأوروبيين فنحن لم نرَ طائرات أوروبية تحطّ في الصين لمساعدتها في هذا الحدث الجلل ومع أن الخطر كان مروّعاً إلا أن المسؤولين الصينيين واجهوا بشجاعة وحكمة واقتدار ولم يدبّوا الرعب في قلوب الصينيين بل استنهضوا الهمم لمواجهة هذا الخطر ولكي يبذل كل واحد ما يستطيع لمساعدة الآخرين. هنا يبرز الفرق بين قيادات تعتبر ذاتها مؤتمنة على أرواح البشر ومن واجبها أن تبذل قصارى جهدها لإنقاذ هذه الأرواح وبين قيادات من رجال الأعمال لا تتقن إلا فنّ تكديس الثروة ومراكمتها لشركاتها ومالكيها وتدّعي الكفاءة والقدرة والتفوّق، وفي أول أزمة تضرب أرجاءها نرى أن معظم المفاهيم التي تبثها عن نفسها تندرج في إطار الدعاية والترويج للذات.
بما أن العلاج الأهم لكورونا أو الطريق الأسلم لتفادي الإصابة هو العزل عن الآخرين والمكوث في المنزل وعدم الذهاب إلى العمل أو ارتياد المطاعم والمقاهي، فقد يكون هذا الوقت فرصة للتأمل والتفكّر في هذا العالم وهذه المرحلة من حياة البشرية، وما هو مسارها ولماذا نحن هنا وما هو المتوقع للمسار الجديد بعد التخلّص من خطر كورونا؟ لا شك في أن هذه المرحلة من حياة البشرية اتسمت بتأكيد السرعة؛ السرعة في الإنجاز، السرعة في الاختراع، السرعة في الحصول على الموارد ومراكمة الثروات ومصادر الطاقة نتيجة التنافس العالمي على أوراق القوة المادية والسياسية. كما اتسمت هذه المرحلة الماضية بالضرب بعرض الحائط بالقوانين والشرعة الدولية وحقوق الإنسان وأهمية الحفاظ على البيئة والتعامل المدروس معها فكان الأثر السلبي جداً على المناخ والإنسان وبدأت الاضطرابات المناخية في كل مكان نتيجة ذوبان غير مسبوق في القطب الشمالي وتضرر طبقة الأوزون وحدوث الفيضانات والاضطرابات في درجات الحرارة بشكل لم يعهده الإنسان سابقاً. هذا فضلاً عن انعدام التفكير المنطقي بالحقوق والواجبات للدول؛ فأصبح الحق هو للأقوى ولم تعد عذابات الشعوب وامتهان حقوقها وثرواتها وكرامتها في جدول أعمال منظمات أممية بل أصبح الكذب والتسويف سيّدي الموقف بالاستفادة من عدم الجرأة في مناصرة الحق نتيجة العقوبات الشديدة التي حلّت بالمناصرين للحقوق والمدافعين عنها.
قبل انتشار كورونا كنا نراقب انهياراً أكيداً للنظم السياسية والشرعية الدولية التي تمّ التوصل إليها بعد الحرب العالمية الثانية وشاهدنا بأمّ أعيننا تجاهل الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية لحقوق الفلسطينيين في أرضهم واتخاذ كل الخطوات التي تتنافى مع أبسط قواعد حقوق الشعوب والمنطق السليم وحتى مع قرارات الأمم المتحدة، كما كنا نشهد التسابق لامتلاك مصادر الطاقة منفلتاً من كلّ عقال ولا تحدّه أبداً اعتبارات جغرافية أو سياسية أو أخلاقية، وأصبح دور الجيوش هو السيطرة على هذه المصادر واستغلالها لمن يمتلك القوة وليس لمن يمتلك الأرض أو الحق، وأصبح المحتل والمعتدي والمستوطن يسير على السجادة الحمراء ويفاخر بإنجازاته على حساب الشعوب المستضعفة والتي لا تمتلك السلاح لمواجهته، كما تلتزم الصمت دول تدعي الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان حيال دولة عضو في الناتو تعتدي على دولة جارة في وضح النهار وتستقدم المعدات والجنود والإرهابيين لشن العدوان من دون أن توجّه لها إدانة واحدة ، بل إن ممثلين من دول أخرى يزورونها ويزورون المناطق التي يحتلها الإرهابيون تأييداً للإرهاب وداعميه ومموّليه. صحيح أن فيروس كورونا أحدث رعباً عالمياً ولكنّ التفكّر بمجريات الأمور على الساحة العالمية يُري أننا كنا نعيش رعباً أكبر نتيجة انقلاب المعايير السياسية والأخلاقية والمجتمعية والعجز عن مواجهة هذا الانقلاب أو وضع حدّ له لأن الدول الأقوى عسكرياً هي التي تقود هذا الانقلاب وتبرّره وتروّج له.
الآن وبعد أن أسهمت بوادر هذه الكارثة العالمية بكشف حقيقة ومواقف النظم السياسية في العالم من حياة البشر وحقيقة الحرص على هذه الحياة ونوعية هذه الحياة ومن هي النظم التي تدّعي هذا الحرص ومن هي النظم التي تعيشه وتمارسه فعلاً هل يمكننا أن نتوقف جميعاً ونفكّر ونمتلك الوعي والجرأة لنسمّي الأشياء بمسمياتها ونرفع الصوت عالياً في وجه الظلم سواء كان صغيراً أم كبيراً وبغض النظر عن الأثمان التي يجب أن تدفع؟ الحق يُقال إن النظام السياسي والمجتمعي في جمهورية الصين الشعبية برهن خلال هذه الأزمة الصحية والإنسانية أنه الأقدر على استنهاض الطاقات وأنه الأحرص على حياة البشر وأنه الأكثر كفاءة في تخفيف الأضرار وقيادة المجتمع والدولة ومعالجة الأزمات بشكل يثير الإعجاب.
أما النظام الليبرالي فقد أظهر منذ البداية استخفافه بما يحلّ بالناس إلى درجة أن رئيس وزراء دولة يحذّر شعبه من أنهم مقبلون على فقد أحبائهم!!! وفي هذا تنصّل من المسؤولية وتخلٍّ عن الدور المنوط به أصلاً والذي من أجله تبوّأ هذا المنصب. الاستنتاج الأهم هنا هو ألا نضيع وقتنا بعد اليوم في متابعة الإعلام الغربي الذي يندرج في إطار الدعاية لهذه النظم لأنه لا علاقة له بالواقع ولا يعبّر أبداً عن حقيقة ما يجري وأن نطّلع أكثر بكثير على تجربة الشرق وخاصة تجربة الصين لأنها تجربة رائدة للإنسانية وضرورية كي نتعلم منها أسلوباً مختلفاً في الحياة هادئاً وفاعلاً في الوقت ذاته مع احترام الجغرافيا والتاريخ والبيئة والحضارة وقدسية حياة الإنسان على هذا الكوكب. فيروس كورونا يجب أن يغادرنا ونحن أكثر تواضعاً وأكثر تفكّراً وأكثر حرصاً على حياة البشر ومصلحتهم على هذا الكوكب، كما يجب أن ينتزع من المتجبرين والمتكبرين تجبرهم وتكبرهم لأنهم في الأزمات برهنوا أنهم الأضعف والأقل كفاءة وقدرة على مساعدة أنفسهم ومساعدة الآخرين. ويجب أن نحيّي شعب الصين والقيادة الصينية اللذين أظهرا الحكمة والتفاني والبذل والعطاء في سبيل الآخر.
يجب أن يغادرنا فيروس كورونا بعد أن نقتنع بأن الحياة البشرية واحدة على هذا الكوكب وبأن ما يحدث في الصين يرتدّ على أوروبا وأميركا والعكس صحيح وأن لا أحد يقدر على خلق جزيرة معزولة ينعم فيها بالثروة والهناء على حساب فقر الآخرين وتعاستهم، يجب أن نتخلص من فيروس كورونا ومن أساليب التعامل غير الشرعية بين الدول والبشر التي سبقت مرحلته والتي استخدمت فيها دول الاستعمار الغربي أبشع الأساليب للانقضاض على حقوق وسيادة وثروات الآخرين والتي أوصلت البشرية إلى حافة الهاوية وبذلك نُشفى ليس فقط من كورونا وإنما من أمراض الجشع الاستعماري وسياسة الهيمنة الغربية التي سبقته والتي لا تقلّ خطراً عنه؛ فهي تفتك بالعالم ولكن بأساليب تعسفية تدميرية مختلفة ولذلك فإنّ التصدّي لها لا يقلّ أهمية عن التصدّي لكورونا.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً