الانتخابات النيابيّة: إعادة إنتاج المأساة اللبنانيّة
الانتخابات النيابية المزمع تنظيمها في لبنان لن تكون مختلفة عن سابقاتها في أداء دورها البديهي بإعادة صياغة السلطة وتجديدها بصورة متكررة، وهي لن تأتي بجديد في الصيغة التي بُني البلد على أساسها، استجابةً للدور الذي أُنيط به، وسيطاً بين الشرق والغرب، ومنصّةً وساحة للانطلاق نحو الجوار سلماً أو حرباً.
ومن غرائب الأمور، وربما من فرادة التجربة اللبنانية "الفذّة"، أنَّ الانتخابات تجري في المسار عينه الذي جرى في السابق، مع غضّ النظر عن المتغيرات العالمية والإقليمية وانعكاسها عليه، وأن الاستعدادات لها تجري وفق الوتيرة عينها كالسابق، في النظام الانتخابي عينه، وفي توزيع المقاعد والقوى والتحالفات عينها، كأنه لم تجرِ حروب في المنطقة، ولم تحدث تطورات ومتغيرات، وأيضاً، كأنّ لبنان، الأكثر عرضة للتأثير تاريخياً في مستجدات المحيط والخارج، لم يتأثر بكلِّ ما جرى، رغم الزلزال الذي ضربه ابتداء من 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، والذي تتواصل تداعياته وانكساراته عليه وعلى بنيه وساكنيه.
المعنيون بالانتخابات والشغوفون بها يريدون العودة إلى السلطة، كلّ من موقعه، رغم أنَّهم لم يعلنوا برنامجاً مغايراً للبنان عن سابقه، باستثناء لفتة بسيطة واحدة قام بها رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون في الرسالة التي أُعلِنَ إنه بعث بها إلى الرئيس السوري بشّار الأسد، متمنياً العمل على إقامة فضاءٍ مشرقيّ جديد متفاعل بين أبنائه ومجتمعاته على مختلف الصعد؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ورغم أنّه لم يعلن مضمون الرسالة وتفاصيلها، وإن كانت قد حملت عروض مشاريع أو شروحات عن الفكرة المطروحة، فإنها تنمّ عن فهمٍ وإقرارٍ بأنَّ لبنان، في ظلّ التطورات التي حدثت، لا يمكن أن يكون كالسابق.
وإذا شئنا الدّقة أكثر، يمكن القول: لم يعِش بلد في العالم سوى لبنان عواصف سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة دائمة من كل الاتجاهات، تماماً كمناخه الطبيعي، دفعتها نحوه تطورات كل مرحلة، وتلقفتها تركيبته الخاصة المتشققة على فوالق المنطقة والعالم! ولا يوجد بلد سوى لبنان عصفت به كلّ التطورات العالميّة والإقليميّة، وأثرت في مساره الحياتي وتطوراته منذ نشأته في العام 1943 كياناً مستقلاً بدولة خاصّة به، وسلطة تدير الدولة، مشكلتها الأساسية أنها توزعت طائفياً بالتوازي مع تمثيل دولة أو أكثر من دول العالم والإقليم في كلِّ طائفة.
الصيغة المتفلّقة في شقوق المحيط جعلت البلد يدفع الأثمان الباهظة التي لا يمكن حصرها وحصر تداعياتها على عتبة عمرها الثمانين. ويعدّ تَعذُّرُ حصرها ناجماً عن استمراريتها وكثرتها وتجلياتها بصورٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ فسيفسائيّاً بما لم يشهده بلد قبلاً.
ولو شئنا العدّ، لوجدنا أنَّ الأحداث والتطورات التي اتخذت أبعاداً أكثر مأساويّة حتى هذا العام لما انتهينا، ولدَفَعَنا ذلك إلى التعلُّم من تجارب الماضي، ولأقررنا بأنَّ الوليد الذي نعيش فيه، أي الكيان اللبناني، غير قابل للحياة بالطريقة عينها، ومعرّض للانتكاسة أمام أصغر التطورات، ولدَفَعَنا ذلك، إذا كنا صادقين مع أنفسنا، إلى البحث عن حلٍّ غير تكرار التجربة عينها في كلّ مرة، وصولًا إلى الانتخابات النيابية الحاليّة.
متغيّرات المرحلة
لا يجهل أحد متغيّرات المرحلة، وحصراً منذ اندلاع الأحداث السورية وما نجم عنها من متغيّرات، وأبرزها انتصار "محور المقاومة" على المحور الأميركي الإسرائيلي العربي، وبروز قوى دولية صاعدة، روسيا والصين وإيران، بدأت تنهي مرحلة أحاديّة القطب، وتسحب العالم من تحت جزمة التحالف الأميركي.
إنَّنا أشبه – نسبياً - بمرحلة انتصار الحلفاء في الحرب العالميّة الأولى، وبسط سيطرة الاستعمار الفرنسي البريطاني، ما أتاح للمنتصر في الحرب أن يعيد رسم العالم وتشكيله على قياساته ومصالحه، ومن أبرز تجليّات ذلك تقسيم المنطقة وفق ما تم التوافق عليه في "سايكس-بيكو" المشهور، وتسريع الاستيطان اليهودي في فلسطين (بين 1840 و1948)، تمهيداً لزرع الكيان الغاصب.
تمكّن المنتصر من تشكيل العالم على رؤاه، وفصّله على قياساته، ورسمه وفق تطلعاته وأحلامه. المنتصر يحدّد الأمور في تجارب التاريخ المختلفة، وبصورة متكرِّرة ودائمة، لكن في بلادنا ما هو مستغرب أنَّ المنتصر ينتظر المغلوب ليحدّد له ما الذي يجب عمله، وما يجب الإعراض عنه.
ما زال المغلوب في العراق وسوريا يلعب بالبلدين على هواه، مع مقاومة متراجعة نسبياً مقارنةً مع المقاومة التي جوبه بها الاحتلال الأميركي للعراق عقب حربين كارثيتين. أدَّت المقاومة يومها إلى فرض انسحاب الأميركي من العراق، لنجد أنفسنا اليوم أمام الأميركي ما انفكّ يدير اللعبة في كلِّ ساحات المشرق، وخصوصاً في لبنان، حتى بات يحدّد كم ساعة كهرباء يحق للبنان، ومن أين حصراً، ورواتب الموظفين، ونسبة غلاء المعيشة، ويمنع فَرَجاً يمكن أن يأتي من دولٍ أخرى.
وبمواجهة طرح رئيس الجمهورية لفضاء مشرقي متفاعل، يعيد الأميركي فرض إحياء صيغة لبنان التاريخيّة التي أسّسها أسلافه في العام 1943 عبر الانتخابات النيابية، ليعيد لبنان إلى مرحلة الإذلال والمعاناة.
فَشِلَ الأميركي وحِلفُه في بسط سيطرته على الشرق، وخصوصاً في سوريا، وفَشِلَ في كسر سلاح المقاومة، وحاول "إعادة لبنان إلى العصر الحجري" ما لم يُسحب سلاح المقاومة، ففشلَ، ولم يبقَ أمامه إلا الانتخابات النيابيّة، التي يسعى بواسطتها للتحكّم في البرلمان بأكثريّة موالية له للغاية عينها، هي سحب سلاح المقاومة – الوهم - عبر البرلمان، لينفّذ بذلك أنعم الحروبِ وآخر ما يُمكِنه فعله.
خياران
في هذه المرحلة المفصليَّة، نحن أمام خيارين؛ إما انتخابات نيابية تعيد لبنان وبقايا سكّانه إلى عصور العذاب التي ذاقوا مراراتها منذ نشأته، وإما العمل على فضاء مشرقيّ جديد تكريساً لتوجّه المُنتصر، يفتح آفاق حياةٍ جديدةٍ للمنطقة والعالم، ومن ضمنها لبنان.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.