قبل 2 سنە
نقولا طعمة
219 قراءة

لزوم ما لا يلزم: الانتخابات النيابيّة مهرب للسّلطة من مأزقها

شكَّل اقتراب موسم الانتخابات النيابيّة في لبنان متنفّساً لرجال السّلطة اللبنانيين المأزومين، الَّذين تقع على عاتقهم مواجهة تداعيات الانهيار الحاصل، والمتفاقم منذ انطلاق الأزمة في خريف العام 2019، وما تبع ذلك من تطوّرات. 

الانتخابات متنفّس للمعنيين بالشّأن العام، لكنَّهم يقفون مكتوفي الأيدي في مواجهة الأزمة، فتتفاقم، وينوء المواطن تحت وطأتها مهزوماً لا يلوي على شيء، ولا يستطيع القيام بأيِّ أمر يخفّف أعباءها عن كاهله، كما يجد المسؤولون في هذه الانتخابات مهرباً لهم، ويروّجون بأنّها محطة الإنقاذ التي بات كثيرون يعتقدون بها كأمل "الغريق" المتعلّق بـ"حبال الهواء".

مرّة جديدة، يظهر المجتمع غير مستفيد من دروس السابق ومن تاريخه القريب. وإذا كان العتب على المواطن الّذي لا يحفظ دروس الماضي وتجاربه المريرة والدائمة، فإنّ المسؤول ليس بريئاً من تهمة الجهل بالتاريخ أو أنّه يتجاهله عن عمد، فهو يؤدي الدّور الَّذي يحدّد هُويته السياسية بالارتباط بالخارج عبر موقع طائفته، التي باتت تعدّ جسر العبور بين الواقع المحلّي وعواصم الخارج.

وفي هذا السياق، لا بدَّ من التذكير بجدل خضوع لبنان التاريخي للمؤثرات الخارجيّة، منذ أن أسَّسه الفرنسيّون كياناً على مقاس مصالحهم، وساحة يلعب الغرب فيها الأدوار المناسبة لمصالحه في المنطقة، وجاء "الطائف" تأكيداً لهذا المعطى، متمثلاً بالرعاية الدولية العربية لهذا الاتفاق، كنقطة تحول من الرأسمالية الأوروبية التابعة إلى الليبرالية الأميركية المهيمنة منذ أواسط القرن الماضي على معظم العالم.

ويأتي موعد الانتخابات النيابية كنوع من الصدفة - التي لا بدَّ منها - في أزمة ممتدّة تبدو كأنّها بئر بلا قعر، من دون أن يعني ذلك أنَّ حلول الموعد هو من صلب تطوّر الأحداث بطريقة يمكن أن يؤثر فيها أو يغيّر مجراها.

الانتخابات مجرد موعد حلّ في عزّ الأزمة وتفاقمها بالصدفة، والتقطها المأزومون ليهربوا نحوها بضعة شهور، متخذين منها حجة لإنقاذ واهمٍ تضرب جذوره في عمق الأزمة العالمية وتداعياتها الإقليمية.

الواقع اللبناني هو عينه، وتركيبة النظام الطائفية هي ذاتها، وتوازناتها تعيد رسم السلطة، فيتكرر المشهد السياسي كل مرة بصورة أكثر دراماتيكية؛ المشهد تكرّر مراراً بين 1952، و1958، و1970، و1975، وصولاً 1989؛ عام اتفاق "الطائف"، ثم ما بعد زلزال 2005؛ موعد اغتيال الرئيس الأسبق رفيق الحريري، وما تبعه من محاولات استكمال السيطرة على لبنان، وتدمير سوريا، ومواصلة تدمير العراق بعد حربين أميركيتين مسبقتي الإعلان. 

هذا المشهد الدّولي الإقليمي الكبير ينعكس على لبنان بصيغة الأزمة الحالية، التي ليست إلا محطة في تطوراته، ومأزقها يعدّ انعكاساً للمأزق الذي دخله العالم على خلفية صعود شرق وتأزّم غرب وتصاعد صراع دوليّ كبير، تحلّ فيه قوى عظمى محلّ قوى كانت عظمى في ما مضى، وهي تستسقي من عظمتها السابقة بعض رمق يطيل حياتها، ويؤجل مآل مسارها نحو التراجع التاريخي المحتوم.

في مسار عالمي من الصراع، ومع انعكاساته الإقليمية، يصبح الحديث عن دور الانتخابات النيابية اللبنانية ملهاة بسيطة، في الوقت الذي علّمتنا دروس التاريخ أنَّ التحولات الكبرى في المنطقة كانت تطرح تساؤل: أيّ لبنان نريد؟ ما هي صيغته؟ ولأيِّ دور ترسم تلك الصيغة؟ 

هذا ما جرى يوم تمكّن الغرب الاستعماري من السيطرة على المنطقة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وراح يرسم كيانات وأقطار الدول المجزأة وفق خارطة "سايكس بيكو"، وبالروحية التي أرساها مؤتمر بنرمان 1905-1907 لمصير منطقة الخلافة الإسلامية التي عاشت منذ زمن الفتح العربي الإسلامي وحتى نهاية زمن العثمانيين. 

وفي خضمّ الصراع الدولي المتفاقم، وانعكاسه الإقليمي راهناً، يتكرر المشهد، وتتكرر الإشكالية والتساؤلات، ويطرح مصير المنطقة ككل، وليس مصير الكيان اللبناني فحسب، ويصبح الحديث عن دور الانتخابات في الإنقاذ مجرد "اسكتش" هزلي لا يرقى إلى مستوى المسرحية.

وفي أحسن أحوال الانتخابات النيابيّة المشكوك في أمرها، في حال حصولها، كلّ ما يمكن حدوثه هو إعادة إنتاج السلطة اللبنانية على صيغة "الطائف"، أي إعادة إنتاج الأزمة والمأزق بالطريقة عينها، ومهما حدث من متغيرات في العملية الانتخابية، فهو لن يتعدى التوازنات الطائفية المرسومة عبر قانون الانتخاب الذي سيعيد التركيبة عينها للسلطة المأزومة التي هي المأزق بعينه. 

كذلك، إنّ الانتخابات تشكل مهرباً ومتنفساً للسلطة الحاكمة للبلد، هروباً من استحقاقات داهمة، لكن هذه السلطة، باعتماد قواها الأساسية على الخارج، وخضوعها التاريخي لمشيئة الغرب الذي أسسها، وأرساها تكراراً، وأعاد إنتاجها بالصيغة-المأزق عينه، استطاعت الهروب من استحقاقات أطلَّت برأسها على المنطقة في العقد المنصرم، وظهرت بقوة أكثر في السنتين المنصرمتين، وتجلّت بشكل أقوى السنة الماضية، بالضَّغط الشرقي الذي قدّم حلولاً للبنان والمنطقة، بمبادرات صينية وروسية وإيرانية، لكن وكلاء السيطرة الغربية تمكّنوا حتى اليوم من صدّها. ولولا ذلك، لما بقي مأزق، ولحلّت الأزمة خلال شهور قليلة. 

ولو افترضنا أنَّ المراهنين على الانتخابات النيابية سيقدّمون حلولاً للأزمة، فهي لن تتعدّى بعض ما يمكن أن يقدمه البنك الدولي. وبحسب مصادر مطّلعة، فإنّنا نخسر 15 مليار دولار عبر شروط البنك الدولي، لنحصل على 3 مليارات بصيغة ديون. 

وما يمكن استخلاصه هو أنَّ السلطات المختصّة تعرف نتائج الانتخابات مسبقاً، وتعرف أين الإنقاذ، وأين المأزق، ولو كانت متأكدة من أنّ الانتخابات هي الحلّ لمأزقها، لما وقفت من دون مبالاة بتداعيات الأزمة على المواطنين؛ وقود انتخاباتها، ولاتّخذت بعض المبادرات لتخفيف وطأتها عنهم، لكسب ودهم وأصواتهم. 

وما موقفها اللامبالي سوى تأكيد على أنَّها تعرف أن الانتخابات ليست الحلّ، إذ إنه يكمن في المكان الّذي ترفضه، والمحمول على أكتاف الشرق الوافد، والذي تخشاه، لكونه يهدد دورها وموقعها السلطوي الذي كان مصدر الثروات التي جمعتها وأودعتها في بنوك العالم.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP