قسم بايدن: جملة اعترافات بأزمات نظامه الوجوديّة
بعد الاستماع إلى خطاب الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، كان لا بدَّ من التوقّف عند جملة من المواقف والتصريحات هي أشبه بالنّعي لأميركا السابقة؛ أميركا "المجد العظيم"، والقوة الجبّارة، والبلد الموحّد، والغنى الفاحش، والحياة الرغيدة، وادعاء ديموقراطية طوباوية منزلة لا يحقّ لأيّ أحد المسّ بها أو التعرّض لها.
لم يتضمّن خطاب بايدن اتجاهات تطوير وتحسين لما يفترض أنه تطور وتحسن سابقان في الحياة الأميركية التي مضى عليها قرن من الزمن على الأقل. لم يتحدّث عن تقدّم في مجال الخدمات الاجتماعية لشعبه. تطرّق إلى أزمات بلاده، واعداً بمحاولات تجاوزها.
نقطة وراء نقطة تضع المستمع بشكل ملموس أمام احتمال انهيار الإمبراطورية انهياراً مدوياً وصارخاً وصادماً كسقوط الإمبراطورية المماثلة في العصر الحديث، أي الاتحاد السوفياتي. ليس من السّهل تصديق أن دولة بعظمة الولايات المتحدة وجبروتها بلغت من الاهتراء الداخلي ما عرّاه بايدن في خطابه، وغطّاه الإعلام الأميركي "الديموقراطي" و"الحر" على مدى عقود طويلة من الزمن.
بداية الاعترافات إحياء الطبقة الوسطى. اعتراف صارخ بما آلت إليه الأمور في الإمبراطورية العظمى. غابت الطبقة الوسطى، صمام الأمان لأي مجتمع، وبات الوضع الأميركي مهدداً بالانفجار. منذ 4 سنوات، لم نكن نصدق، ولا نعرف السبب، كيف أقبلت الشرائح التي همشتها الليبرالية الأميركية بعشرات الملايين على انتخاب رئيس قادم من سوق العمل، و"طازج" في دخول عالم السياسة، هو دونالد ترامب، فكانت الرصيد الكبير لأصوات أوصلته إلى البيت الأبيض.
لم يكن يعرف بالمحسوس والملموس ما يجري في أميركا من لم يذهب إليها ويعش أزماتها ويعاين يومياتها، حتى إذا قيل إن الملايين من الأميركيين يتسلّحون لم يكن ليصدق هذا الكلام، رغم وضوح صورة الصفوف المكتظّة والمقبلة على التسلح، كما لم يكن يصدّق الإنسان أنه في أميركا التي يهاجر إليها ملايين الناس من أصقاع الأرض للعمل وتحصيل المال الوفير، ثمة صدامات أهليه تقع وستتكاثر بين الفئات الاجتماعية والعرقية التي تحتشد في أميركا، ولا تشكل وحدة وطنية بسبب تنوعها وانقساماتها وعدم تطور تاريخها بشكل توحيدي، فذلك لا يحصل في نظام اقتصاد ليبرالي يأكل القوي الضّعيف فيه بمباركة ثقافة اجتماعية تؤلّه المال ومن يُجِيد مراكمته، فإذا بايدن يعترف في خطابه بغياب هذه الوحدة، داعياً إلى تحقيقها.
شراذم الطبقة الوسطى المتفكّكة والمنهارة في النظام الليبرالي أقبلت على انتخاب ترامب من دون معرفتها به، ومن دون أن يكون وجهاً مألوفاً في السياسة الأميركية. راهنت أنّ جديداً ما من خارج اللعبة التي وصفت بالديموقراطية الأميركية، والتي حصرت بين حزبين لا ثالث لهما، الجمهوري والديموقراطي، ربما يعيد لهم ما خسروه في العقود السابقة.
لو عرفنا أن 45 مليون عائلة، أي ما يناهز 180 مليون إنسان (على افتراض أنَّ العائلة مكوّنة من 4 أشخاص) فقدت منازلها في مشاريع الإسكان الفاشلة بسبب أزمة العام 2008، وباتت مهددة في إقامتها وسكنها، ولو تذكَّرنا كيف دخل الجيش المكسيكي إلى ولاية فلوريدا لإنقاذ الناس الذين غطت فيضانات الأعاصير منازلهم وبيوتهم، وقتلت منهم الآلاف، بينما كان رئيسهم جورج بوش الابن في مزرعته ولم يهتم لأمرهم، فبادرت الحكومة المكسيكية إلى إرسال فرقها لإنقاذهم من بين البيوت والشوارع المغمورة بالمياه، لأدركنا عمق شكاة بايدن، رغم اعترافه فقط بالقليل منها.
لم يكلّف الرئيس بوش خاطره، وهو من أركان واحدة من أكبر عائلات العالم ثراء، ليقطع إجازته لإنقاذ الأميركيين، فليس الناس همه، بل حروب العالم، والحصول على نفطه وثرواته بالحروب، لمراكمة ثروات عائلته والعائلات الفاحشة الثراء المماثلة التي تتحكم بالمصير الأميركي وبسياسة الدولة الأميركية، لكن لا يهمّها الفقراء في شارع هارلم النيويوركي، ولا المشردون من منازلهم والباحثون عن مأوى جديد، ولا الغرقى بالطوفانات، ولا عشرات الملايين من العاطلين من العمل والمجردين من نظام الرعاية الاجتماعية.
يعترف بايدن اليوم أنَّ بين السلطة الأميركية والشعب الأميركي هوة سحيقة أحدثها سقوط الطّبقة الوسطى وفقدانها في مسار النظام الليبرالي لعقود طويلة، فجاء واعداً بمحاولة إعادة بنائها، في تساؤل عما إن كان ما هدَّمته عقود من الزمن يمكن بناؤه في بضع سنوات.
يعترف بايدن في خطابه بـ"فقدان الأمل"، والانقسام الحاد، وتصاعد التمييز العنصري، والخلافات الداخلية، وما أسماه التطرف ووصفه بالإرهاب، وإن هي إلا صفات استهدف بها أبناء الطبقة الوسطى المتساقطة في مجتمعه.
بايدن بعد أدائه قسم اليمن، أشار إلى "أننا سنعمل على استعادة أسس الديموقراطية"، وهو اعتراف خطير بزعزعة الأسس التي أوصلته إلى كرسي الرئاسة، و"استعادة وحدتنا"، كما قال، تأكيداً على تفكّك بلاده، فـ"دستورنا يضمن لنا التعافي السريع"، اعترافاً بما أصاب بلاده من أمراض، لكنه لم يقدّم توضيحات عما يمكن تقديمه لتحقيق تلك الأهداف: الوحدة والتماسك والتعافي.
وقال أيضاً: "سنواصل المسار رغم الصّعاب"، معترفاً بصعوبة الحلول. صعد بايدن إلى منصّة التنصيب محاطاً بسبعة وعشرين ألف جندي لتأمين قسمه وقسم نائبه لنصف ساعة، ومقلّصاً من يعنيهم أمر حفل التنصيب، مقتصراً إياهم على عدد محدود غير مسبوق بقلّته.
الحفل بحدّ ذاته ليس أقلّ فضائحيّة عن إقبال جمهور المهمّشين على انتخاب دونالد ترامب منذ 4 سنوات. واليوم، يستحضر آلاف الجنود للفصل بين بايدن، أي ممثّل السّلطة الأميركية، والمهمّشين في أوكار أحيائها الفقيرة وتشرّدها، نتاجاً للنظام الليبرالي.
ليس هناك رعب يتهدّد سلطة كالرعب الّذي استهدف حفل تنصيب بايدن، ما استدعى استحضار آلاف القوى الأمنية. صعد بايدن محمياً من الجمهور المهدّد له، والذي يفترض أن يكون الجمهور الذي انتخبه وأوصله إلى سدة الرئاسة.
بين حشود الآلاف من الجنود لإنجاح حفل التّنصيب المقزم، وتهديدات جمهور عريض معترض على "سرقة السلطة منه"، ثمة تهديد بحرب أهليّة، وثمة ما استدعى من بايدن قول ما لا يصدّق، بأنّ أميركا ستظلّ "مشعلاً للديموقراطية في العالم".
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً