قبل 4 سنە
نقولا طعمة
454 قراءة

الإدمان على الإثارة والأزمات.. لبنان ما بعد إدلب

 

يُساوِر القلق اللبنانيين في ظلّ تفاقُم الأزمة التي تعصف ببلدهم، وعدم توافُر صورة واضِحة للرؤية وسط التساؤل عن المصير. بات لسان حال اللبنانيين يقول: إلى أين؟ ولا مَن يمتلك الجواب القاطِع.. ولا مَن يُطمئنهم على مصيرهم، وهم الذين قضوا العُمر في الحروب، والتوتّرات، والاضطرابات، التي كانت السِمة الغالبة على حياتهم، بينما كانت فترات الهدوء استثناء، والاضطراب قاعدة منذ نشأة الكيان الفذّ على يد "العبقرية" الاستعمارية التي أسَّست لتقسيم المنطقة بُعيد الحرب العالمية الأولى، وكرَّستها سياسة فرنسا وبريطانيا الاستعمارية بصورةٍ تامةٍ لمصالحها، ثم لمصالح وريثهما الأميركي. 

غالبيّة اللبنانيين لا يريدون الاقتناع أن لبنان لم يُخلَق لهم، ولا أنه لم يكن بلداً يجد فيه المواطِن العادي، كما السوري في بلده، والمصري، والفرنسي، والأميركي.. كل في بلده.. ما يجده هؤلاء في بلادهم من استقرارٍ اجتماعي وسياسي يؤهّلهم لبَرْمَجةِ حياتهم، والعيش على الأمل، أيّ أمل مُمكن.

وعاش اللبناني على أمل دولة، وبلد يبني فيه مستقبل حياته، لكن الأمل كان سراباً والحُلم وَهْماً. كان ولا يزال. ولا نزال بعد كل تلك الخبرة الطويلة ببلدنا، وظروفه، نتساءل: إلى أين؟ ماذا يجري؟ ما المخبأ؟ كأننا ما زلنا في بداية الطريق، وكأن تجارب الماضي لم تُعلِّمنا من الدروس نحو المستقبل. 

ما يُخشى منه أن كثيرين من اللبنانيين باتوا يعيشون على شغف التوتّرات، وأنه بات لا يروق لهم الهدوء والسلام، وهم باتوا مُدمنين على الإثارة والتشويق (Suspense) والمُفاجأة. ما هو غير مُنْتَظَر، وما هو وافِد من دون العِلم في أغلب الأحيان بالمصدر، وهذا ما تُعبِّر عنه ماهيَّة التحرّكات الاحتجاجية المُنْدَلِعة منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر الفائِت، والتي تستمر صعوداً وهبوطاً، ولا يُراد لها أن تصل إلى نتائج مرجوَّة، أو مُحدَّدة، وتضمّ كل أصناف المَنْطِق، وعروض المشاريع، والرؤى مهما كانت لا واقعيّتها، أو مهما كانت واضِحة نتائجها بأنها بلا أُفق مُحدَّد.

في مُراجعةٍ سريعةٍ لتاريخنا، لم يعد خافياً على أحد أن لبنان لم يكن مشروعاً وطنياً لأبنائه، ولا يمكن أن يكون، بل كان، على الدوام، وفق ما رسمه المُسْتَعِمر له، وأن الحال السياسية العامة للبنان ليست إلا نِتاج التوازُنات الدولية-الاقليمية. ولذلك، لعب البلد دور الساحة لصِراعات المنطقة، سياسياً، وأمنياً، واقتصادياً في مراحل مختلفة، وكانت هذه المستويات تتناوَب أولويَّة المُجابَهة، وفي ظرفنا، المستوى الاقتصادي-المالي يتصدَّر الحركة كسلاحٍ من أسلحة المُجابَهة الاقليمية- الدولية في لبنان، ساحة الصِراع الدائِمة على هذا الوتَر.

اليوم، يستمر الصِراع بحدِّةٍ وعُنفٍ غير مسبوقين في سوريا، حيث يواجه مشروع المقاومة آخر مَعاقِل التآمُر الغربي-الاستعماري على المنطقة، أي معركة إدلب بعد أن تمَّ تنظيف غالبيّة الأراضي السورية من عدوان الميليشيات التي أنشأها الغرب المُعَولَم، وطبخها في مطابخ مخابراته. تتشكَّل الحكومة الجديدة في لبنان، فيهدأ الشارع قليلاً، ويتوجَّه وزير من الحكومة إلى سوريا، فتعود التحرّكات الاحتجاجيّة للتأجَّج، تماماً مثلما توجَّه الوزير صالح الغريب في الحكومة السابقة، وعندما اتفق السيِّد حسن نصرالله مع الوزير جبران باسيل على التواصُل مع سوريا عند موعِد انطلاق التحرّكات الاحتجاجيّة. 

إنه جوهَر الصِراع منذ سايكس-بيكو. ممنوع على المنطقة التحرّر من المشروع الغربي، وجوهره تواصل المنطقة، ووحدتها، وقد وصلت الحال من الحساسيّة نقطة لم يعد فيها محمولاً التلفّظ بعبارة  زيارة سوريا، فكيف بعودة العلاقات معها إلى طبيعتها، أو وحدة الموقف، والمصير معها؟

وللبنانيين المُتسائلين عن المصير، والقَلقين عليه، لا نرى إلا مخرجاً واحداً، لا ثاني له وهو وحدة المنطقة، والبداية بإعادة رَسْمِ وحدة المصير مع سوريا، والبحث معاً عن المخارِج، بالتكامُل مع الدول الناهِضة في الشرق، والتحرّر من سيطرة المُسْتَعْمِر الغربي، والامبريالي الأميركي، الذي مصَّ دماء المنطقة، واستنزف الساحة اللبنانية، ولم يعد مُمكناً الاستمرار في هذه السياسة حيث لم تعد حاضِنتها الشعبية -أقلّه في لبنان- قابِلة لتحمّل المزيد من استغلالها، وتوظيفها في التوتّرات المُستهدِفة للمحيط، خصوصاً سوريا، ومحور المقاومة.

استنزفت الساحة اللبنانية في استغلالها التاريخي من المحور الغربي، والذي بات الرِهان عليه أكثر تدميراً، ومأساوية، فلا صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، عنده الحل، ولا الولايات المتحدة الأميركية تُعطي وقد وصلت إلى مرحلة الأخذ المباشر، في ما يبدو وكأنه "فَرْض خوَّة"، وأوروبا تبحث في دول الشرق الصاعِد ببطء، عن مستقبلها، وقد بات حاضرها مأزوماً، ومستقبلها مُتَخَبِّطاً.

وكل تجارب الماضي الغربية ابتداء من الحرب العالمية الثانية، وتأسيساً لها الحرب العالمية الأولى، انتهت، واستنزفت، مُخلِّفة وراءها مجتمعات مُدمرَّة، ومُتهالِكة في سياسات الغرب، تبحث في خطى دفاع سلبي عن الاستمرار وحفظ المصير بديلاً من المُضيّ في خِطط التطوّر والتقدّم الإيجابي.

تُشارِف المعركة في الشمال السوري على الوصول إلى إدلب حيث لا يمكن إلا تحريرها، وهذا ما يُصرّ محور المقاومة عليه، ومن هنا الجواب المنطقي، والمشروع عن مُشارَكة حزب الله في المعركة.

لم يعد أمام شعوب المنطقة، وفي طليعتها لبنان، إلا البحث عن الحل الاستراتيجي لمُعضلتهم في ما بعد إدلب، بالتعاون مع سوريا، ومحور المقاومة. آن الأوان للاستفادة من تجارب أكثر من قرنٍ من الزمن، لنلتفت إلى عالمٍ آخر، نحن نختاره، وليس قَدَراً مفروضاً علينا كما كان الغرب، ولا يزال. والخيارات واضِحة، والظروف مؤاتية، واحتمالات البدائل كثيرة في دول الشرق من الصين إلى روسيا إلى إيران، كدولٍ صديقةٍ تتقرَّب وقادتنا يبتعدون، من دون إغفال دولٍ أخرى لا تحمل، كلها، في طيَّات سياساتها، نزعة الاستعمار القَسْري التدميري الغربي الهوية، التي سادت أكثر من ألف عامٍ من الاستعمار، والحروب، وسَلْب شعوب العالم أموالها وثرواتها لتعاوِد بها الحروب المُتكرِّرة عليهم. نزعة لن تتوقَّف إلا بتحرّر شعوب العالم، ونَزْع السيطرة الغربية عن شعوبه.

على كل المُتسائلين عن المصير، القلقين على يومهم وغدهم ومستقبلهم، تشكيل حال ضغط لتكريس هذا التوجّه بدلاً من الشكوى، والأنين، واللجوء إلى خِيَم اعتصام، يجري فيها اجترار الكثير من الكلام الفارِغ من دون طائِل.    

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP