آخر المعارك الوطنيَّة: التحرّر من الدّولار بالتوجّه شرقاً
بعد أفول مرحلة الهيمنة بالسيطرة العسكرية المباشرة أو غير المباشرة بواسطة حكّام تابعين، لم يبق أمام الإمبريالية الأميركية إلا سلاح وحيد هو الدولار. به تقاتل، وبه تعاقب وتحجز وتعتدي، متسبّبة بالأزمات لشعوب ودول عديدة.
في المراحل السّابقة، قامت حروب تحرر وطنية أدت إلى طرد المستعمر من البلاد التي كان يستعمرها، كما حصل مع دول التحرّر، الصين وفيتنام وكمبوديا وكوبا والجزائر، القرن الماضي، إذ دفعت هذه البلدان الأثمان الباهظة ثمناً لطرد المستعمر المهيمن والحصول على الاستقلال.
أما اليوم، فلم يعد هناك هيمنة مباشرة عسكرية - احتلالية لدول العالم التي لم تستطع التحرر سابقاً من تحقيق عملية التحرر الوطنية، وباتت الهيمنة مقتصرة على سلاح الأميركي الأوحد والأخير "الدولار"، وخصوصاً بعد حروب المقاومة التي شُنّت على الأميركي في العراق وأفغانستان، فاضطرته إلى الانكفاء، وبقي يمارس هيمنته بالدولار فقط.
لم يكن سلاح الدولار مصادفةً ووليداً لتطوّرات موضوعيَّة، إنما كان مخططاً له، وجرى رسم دوره على يد الجشع الإمبريالي في نهاية الحرب العالمية الثانية، وفق منظومة "برتون وودز" التي أفضت إلى أن يكون الدولار هو العملة العالمية الوحيدة والبديل من الذهب كاحتياط لثروات بقية دول العالم.
إنَّ منظومة "برتون وودز" وما تلاها من خدع وإغراءات مالية أميركية لاحقاً، جعلت مختلف المجتمعات تبيع ذهبها للأميركي، في مقابل حصولها على الدولار الذي شكَّل احتياطي العالم النقدي. وبذلك، وقع العالم تحت الهيمنة المالية للأميركي.
قيل في تقارير مختلفة المصادر إنَّ الولايات المتحدة الأميركية تستحوذ على أكبر احتياط من الذهب، أي ما يزيد على 8 آلاف طن، بينما لا تملك أكثر دول العالم وأغناها أكثر من 3 آلاف طنّ من الذهب.
وبين الدّولار المسيطر على عملات العالم والذهب بكمّياته الكبيرة المكتنزة في مخازن الولايات المتحدة الأميركية - افتراضياً - ظلّت الولايات المتحدة الأميركية تلعب لعبة القوة الطاغية من دون منازع، ولا يستطيع أحد الإفلات من عقوباتها وحصاراتها وعنجهية ممارساتها كسيدة مطلقة على العالم.
دول العالم اليوم أمام فرصة جديدة للتحرّر بتكاليف أقل بكثير، وبما لا يُقاس بما دفعته دول التحرر في القرن العشرين. أولى الخطوات كانت التحرر من الدولار والاعتماد على العملات الوطنية في التعاملات بين الدول، والتي يمكن اختيار الدول الصديقة منها القابلة للتعامل بالعملة الوطنية والمؤيدة لها، وهي دول الشرق، وآخر ما سمعناه في هذا المجال دعوة وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف لاعتماد التعامل بالعملات الوطنية بديلاً من الدولار.
دعوة لافروف سبقتها مبادرات عملانية في هذا المجال، إذ بدأت عدة دول صديقة بالاعتماد على العملة الوطنية في تبادلاتها، مثل روسيا وإيران والصين والعديد من الدول المتعاملة معها، كما سمعنا من سيد المقاومة حسن نصر الله أن إيران على استعداد لتزويد لبنان بما يحتاج من سلع ونفط بالعملة اللبنانية، وهو عرض ليس دونه ما هو أكثر إغراء، لكن الخائفين على دولاراتهم من الأميركي، والخائفين على قيود ارتباطهم بالغرب، ما فتئوا يمنعون قيام هذه الحالة التحررية، كخطوة أخيرة تريح البلد وتفتح الباب أمام حل أزماته.
ربما يفترض التحوّل نحو العملة الوطنية أن تخرج القوى "المدولرة" من السلطة، وهي ما توصف أيضاً بقوى الفساد والهدر. فليخرج أصحاب الثروات (بالدولار) من السلطة، ولتتسلَّمها قوى متحرّرة من الدولار. إننا نعرف أنَّ قوى كهذه باتت "قطعاً نادرة"، لكن يمكن الانتقال إلى عالم المستقبل الآخر من خلالها.
كما يمكن للخائفين على دولاراتهم أن يتخلَّصوا من هذا الخوف، لأن خبراء اقتصاد عالميين يتوقّعون أزمة في "الليبرالية" الأميركيّة منتصف هذا العام أكبر من أزمات العامين 1929 و2008. عندئذٍ، لن تبقى هناك دولارات يخافون عليها.
ووفق خبراء اقتصاد آخرين، أفادت مواقع إخبارية عبر "يوتيوب"، على لسان خبراء اقتصاديين عالميين، ببيع الولايات المتحدة الأميركية أكثر من نصف مخزونها من الذهب في أسواق آسيا، وباتت دولاراتها أشبه بالمزوّرة بلا احتياط فعلي. والمؤسف أنَّ الفيديو الذي كشف هذه الحقيقة الكبيرة والمخفية أُزيل، ولم يعد متاحاً، مع إشارةٍ تدل على إزالته.
واستكمالاً لعملية التحرر من الدولار، تظهر أهمية أخرى للتوجه شرقاً، كفكرة لم تعد ترفاً أو خياراً ممكناً. إنها أشبه بالحتمية أولاً، والخيار الوحيد المنقذ للبنان ثانياً. والغرابة في معارضتها تكمن في خوف كبار أصحاب الأموال القابضين على مواقع القرار في السلطة من حجز الأميركيين على أموالهم.
من جهة أخرى، تقع غالبية اللبنانيين الراغبين في التوجه شرقاً أسيرة قرار أقلية خائفة على دولاراتها وبعض المرتبطين بالغرب. ربّ قائل إنَّ الراغبين في التوجه شرقاً ليسوا أكثرية، لكنَّ نتائج انتخابات العام 2018 التي أفرزت برلماناً بأكثرية مؤلفة من تحالف صديق للشّرق تفترض أن تكون الغالبية اللبنانية مع التوجّه شرقاً.
السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة إلى شعوب العالم: ما الذي يمنع أن يكون الشرق أفق المرحلة المقبلة، في ظل عدم تمكن الغرب من تقديم الحلول لنفسه قبل الآخرين، فيما يعيش أزمات راهنة ومقبلة، بحسب خبراء اقتصاديين عالميين؟
أما اللبنانيون، فالخيار أمامهم مفتوح، إما التحرر من الدولار بالتوجّه شرقاً والاعتماد على العملة الوطنية، بمفتاح وحيد لا خيار آخر سواه، وهو المفتاح السوري، وإما الاختناق الاقتصادي والحياتي، وربما الاختناق بنقص الأوكسيجين، عبر الرئة السورية؛ منفذ لبنان الوحيد على العالم.
بين التحرّر من الدّولار والتوجه شرقاً ترابط جدليّ. وهنا يكمن الحل في لبنان، فلا يعقل أن يبقى البلد أسير قلة لها مزاجها الذاتي وعقدها التاريخية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً