قبل 4 سنە
نقولا طعمة
344 قراءة

جدلية المأساة - الملهاة في افتراض مئوية لبنان الكبير

ما انفكَّ اللبنانيون يلعبون لعبة بلدهم بجدليَّة الملهاة - المأساة. آخر بدائعهم كان الاحتفال الفولكلوري بما أسموه "مئوية لبنان الكبير"، وبحضور فولكلوري أيضاً لصانع بلدهم فرنسا، ممثلاً بالرئيس ماكرون.

المأساة أنّ اللبنانيين تلقَّفوا كذبة لبنان الكبير 1920، وجعلوا منها رواية كروايات الدول التي حقّقت انتصاراتها وفرضت تشكيلتها الاجتماعية والسياسية والنظامية بعد أثمان باهظة، مثل الصين وكوبا وفييتنام والجزائر ودول أخرى. أما لبنان، فلم يقم بانتصار من أيّ نوع، بل كان ما يشبه الهبّة لشعبه - وهو ليس هبّة - لأن مؤسّسه أسّسه وفق مصالحه، وسوّاه على شاكلة رؤاه الاستراتيجية في مرحلة تثبيت حضوره مستعمراً إلى المنطقة، بعد قرون من التسلّل تحت عباءة التجارة مع جبل لبنان. 

المأساة أنَّ اللبنانيين اقتنعوا بأنَّ لبنان الكبير 1920 هو لبنان 1943، وهنا المفارقة، فخارطة لبنان الأول لم تكن سوى اسكتش – خربشة - وبالتأكيد بقلم الرصاص الّذي يسهل محو خطوطه، وتتبدَّل بخطوط أخرى وفق رغبة اليد الراسمة لها. لقد وضع خطوطها العريضة المستعمر الفرنسي والبريطاني في أولى جلساته في العام 1916 في ما عرف باتفاقية سايكس بيكو، التوصية المبدئية الكبيرة لمخطّطات رسمت مصير المنطقة في مرحلة استعمارها، وما بعد بتوكيلها للأميركي، مستمرة، وهي الصادرة في مقررات مؤتمر بنرمان ما بين 1905 و1907. 

نقدّم بعض الحقائق والوقائع لكي نؤكّد أنه لن تنطلي كذبة اليوبيل الماسي للكيان، من جهة تعداد سنواته بدءاً من "نقطة ما" غير متّفق عليها بين أحد، ولم تقم تسوية عليها بين قوى أسّست كيان الدولة، فالمعنى الحقيقي للكيان ليس إلا ما رُسم في مؤتمر "بنرمان" بصورة مبدئية، وبدأ وضع المخططات والمقررات المتخذة فيه في اجتماع سايكس بيكو، وراح التداول في رسم نهايات له يجري على قدم وساق، تصغيراً من هنا، وتمدداً من هناك، وقبولاً من هنا، ورفضاً من هناك. 

راح المستعمر الفرنسي يقدم لصنيعته السياسية مشاريع تركيب المنطقة، ومنها لبنان، وفق رؤاه. كانت المارونية السياسية ما تزال في طور المراهقة بعد أن قطعت مرحلة الجنينية في الحروب الأهلية التي اندلعت في جبل لبنان، بدءاً من العام 1840، مروراً بحركة طانيوس شاهين، وانتهاء بأحداث العام 1860، والتي انقلبت في نتيجتها المعادلة من تولّي الدروز إيالة جبل لبنان زمن العثمانيين، لتتحضّر المجموعة الجديدة لتبوؤ السلطة في مرحلة الاستعمار الأوروبي القادم إلى الشرق بكل صلافة وقوة بعد انتصاره في الحرب العالمية الأولى.

على سبيل المثال، حاول الفرنسي إقناع المرجعية المارونية بالإبقاء على الوحدة مع سوريا. ويبدو أن ذلك الطرح كان يناسب الفرنسي الَّذي وضع ترتيب المنطقة المعروفة اليوم بلبنان وسوريا في عهدته. بالتأكيد، جاء جواب المرجعية رافضاً البقاء في البحر السوري، حيث سيذوب ككتلة صاعدة إلى السطح، وكَفِئة اجتماعية مذهبية بين فئات أكبر منها بكثير.

حاول الفرنسي ضمّ وادي النصارى الأرثوذكسي في سوريا اليوم إلى لبنان، في محاولة لجمع عدد كبير من المسيحيين ليكونوا دعامته الكبيرة في السلطة اللبنانية، لكن المرجعية المارونية رفضت هذا الطرح، ما اضطرّ الفرنسيّ إلى محو خطوط ممتدّة في ما يعرف اليوم بالداخل السوري، وكأنَّ الأرثوذكس في نظر المارونية السياسية، المدللة في أحضان الفرنسي، لم تكن البادئة بالبحث في تأسيس الكيان منذ إنشاء بعض عائلاتها فندق صوفر الكبير مطلع القرن الماضي، وحتى لو كان الأرثوذكسي مسيحياً، فهو غير مرغوب فيه، لأنه يخفف من الكثافة السكانية الضرورية للتمسك بالسلطة ومفاصلها.

رفضت المارونية السياسية ضم جبل عامل في الجنوب اللبناني إلى الدولة التي يجري تركيبها، لكن الفرنسي أصر على هذا الخيار، قطعاً للطريق على تمدد الكيان الصهيوني الَّذي كان الإعداد له جارياً منذ ما قبل أواسط القرن التاسع عشر، حيث بدأت تبنى أولى المستعمرات اليهودية في فلسطين، وكان الإنكليز يريدون تمدّد الكيان الصهيوني إلى حدود مدينة صيدا، لكن إصرار الفرنسي جعل منطقة جبل عامل منطقة لبنانية.

لم يتخذ الكيان اللبناني شكلاً محدداً، فكانت الأبحاث في الصيغة الأكثر تناسباً للقوي تتغير بين الحين والآخر. ومن هنا، يمكن القول إنَّ لبنان الحالي، بحدوده الجغرافية الحالية المتعارفة في الأمم المتحدة، ودولياً، لم تكن قد تبلورت بالصيغة التي يرسمها طلاب المدارس، والمتعارف عليها، إلا بحلول العام 1943؛ عام إعلان نهائية الصيغة اللبنانية. وبذلك، فإن لبنان الحالي عمره 77 عاماً، وما الاستعجال بالتحدث والاحتفال بمئويته إلا من باب التعاطي مع المأساة بالملهاة. إنها محاولة أشبه بفتاة الرابعة عشرة التي تستعجل بلوغ العشرين للتباهي بصباها، وهي في الحقيقة لما تزل مراهقة غير ناضجة.

يستسيغ كثيرون من اللبنانيين اللعب بكيانهم. اصطنعوا له رواية المئوية، وهو في السابعة والسبعين لما يزل بلداً غير ناضج. هو في السابعة والسبعين فتاة الرابعة عشرة المراهقة، مع فارق كبير أنَّ المراهقة فيها من الجمال والفرح ما يكفي ليتمسّك بها الإنسان وهو في التسعين، لكن لبنان في مراهقته السابعة والسبعين لم يترك من جمال المراهقة ما يستحق التمسك به بشغف إلا في مخيلات الحالمين خارج التاريخ، والذين صدقوا أنهم صنعوا لهم تاريخاً في مجازر دموية أسست لحالة لم تغب الدماء عنها في مختلف مراحلها. 

أما فخامة تجلي جدلية الملهاة - المأساة في تاريخ الكيان اللبناني، فقد برزت في تسريب قناعات "الجنتلمان" الفرنسي بأنّ الصيغة التي يحتفي اللبنانيون في مئويتها لم تعد صالحة. المفارقة فاقعة بين ملهاة اللعب بالكيان، واللبنانيون يقبضون مئويته بجد، ومأساة نعي صيغته بفم ممثل صنيعته فرنسا. 

قالها الرئيس الفرنسي ماكرون متبسماً، ليس مكراً، وليس على طريقة "إذا رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظننّ أن الليث يبتسم". إنه المستعمر الفرنسي. لا يهادن ولا يخاف طرح حاجته. جاء من دون تردد على أكتاف انفجار المرفأ وتدمير عاصمة العرب بيروت. حاجته باتت متغيرة بعد مرور قرن على حضوره في المنطقة بتغير العالم فيها. 

اليوم، لم يعد الفرنسي بحاجة للعبور عبر المارونية السياسية متزاوجة مع السنية السياسية من أوروبا إلى العالم العربي. بات الفرنسي، وكذلك البريطاني والأميركي، مقيمين في الوطن العربي، وبات العرب ضيوفاً عندهم. هم (العرب) أيضاً صدقوا مقولة: "نحن الضيوف، وأنتم رب المنزل".

إنه الجنتلمان الفرنسي بصيغته الهوليوودية المتبسمة، يعلن نهاية لبنان الكبير ونهاية حاجته له، في الوقت الذي يحتفي اللبنانيون بمئويته، تحضيراً لمئة عام مقبلة في مخيلتهم، رغم سقوط التجربة في كل عقود عمره منذ نشأته في العام 1943.

هي نهاية جدلية المأساة - الملهاة في لعبة الكيان التي، وإن لم يستطع هول انفجار المرفأ محوها، إلا أنه فتح الباب لإعلانها من بابها الكبير.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP