قبل 3 سنە
نقولا طعمة
331 قراءة

عندما تقاتل السلطة السلطة.. حفاظاً على الديمقراطيّة!

جيّشت السلطات الأميركية ما يزيد على 20 ألف عسكري وأمني في العاصمة واشنطن لتأمين تنصيب جو بايدن رئيساً لأميركا. 

20 ألف عنصر وأكثر تحولت بهم العاصمة الأميركية إلى غابة مسلّحة من جهة، إضافة إلى تقليص حجم احتفال التنصيب الاعتيادي إلى حدود دنيا تتيح فرض إجراء عملية التنصيب بمأمن ممن باتت تسمّيهم السلطة بالمشاغبين والإرهابيين، وفي الوقت عينه تمنع أعضاء الكونغرس من حضور الاحتفال حفاظاً على أمنهم. من جهة ثانية، يدل ذلك على أن الوضع في الولايات المتحدة الأميركية خطا خطوات كبيرة في الانقسام، مذكراً بالانقسام الذي سبق الحرب الأهلية الأميركية في منتصف القرن التاسع عشر.

حساب بسيط يوفّر عناء البحوث السوسيولوجيّة والاقتصاديّة والتنمويّة يؤشر إلى الحال الذي وصلت إليه أكبر إمبراطورية في العصر الحديث، فعناصر الحماية هم في موقع الحماية، أي الدفاع عن عاصمة قرار الإمبراطورية، وعن الكابيتول، مبنى إصدار القرارات، وتنفيذ سياساتها، وتأمين أمن شخص الرئيس المرشح لاستلام السلطة. بالمنطق الأمني، العنصر الواحد في الموقف الدفاعي يفترض أن يجابه بأربعة عناصر في الموقف الهجومي. 

بمعنى آخر، أن تحشد السلطة الأميركية 20 ألف عنصر يعني تخوفها من 80 ألف عنصر آخر معارض لها على الأقل. وعلى الأرجح، إنَّ الكثيرين يحملون السلاح ويستعدون للقتل والموت. 

هذا المشهد يروّج فقط في واشنطن العاصمة، تأميناً لمحيط قاعة التصفيق لفرض تنصيب الرئيس. أما خارج واشنطن، فالمشهد ليس أكثر هدوءاً واستقراراً وطمأنينة. لم تغب عن العالم صور صفوف المواطنين الأميركيين ينتظرون دورهم، لا لشراء الخبز والدواء، بل لشراء السلاح، منذ أن بدأ التحضير للانتخابات الرئاسية. 

لا نعرف إن كان ثمة دولة أخرى يتاح فيها السلاح للمواطن بهذه السهولة، كما يحصل في الولايات المتحدة، لكن من يعرف تاريخ البلد ونشأته يعرف أن السلاح هو مأكله ومشربه وقوت يومه، لأن البلد مؤسس في ثقافته وذاكرته أساساً على السلاح والعنف.

تأسَّست الإمبراطورية الأميركية على العنف والسلاح بوجهين: الأول بالإبادة الجماعية لسكان البلاد الأصليين، سواء بالقتل القائم على عدم تكافؤ القوة، أو بنشر الأوبئة، أو بسواهما من ممارسات أفضت إلى أن يضع المستعمرون الجدد، الهاربون من الظلام الأوروبي، يدهم على مساحات شاسعة من الأرض المكتشفة حديثاً. 

الوجه الثاني يكمن في كيفية تأسيس المستعمرين لبيوتهم وأرزاقهم على الأرض الجديدة، وفق ما عرضته الأفلام الأميركية، حيث كان وافد يقتل وافداً آخر لاغتصاب قطعة أرض وضع الأخير يده عليه، إما اغتصاباً وإما شراء بالذهب ممن سبقه من مغتصبين.

هذه الإمبراطورية التي قامت على القتل المزدوج بين الوافدين والسكان الأصليين، وبين الوافدين في ما بينهم، عاشت حروباً أهلية لمستوطنين من مختلف بقاع الأرض، لم يكن يجمعهم إلا المصلحة وفق مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".  

هكذا، نشأت الولايات في ألف باء السياسة، واستمرت وأخذت تتوسع حتى بسطت يدها على كل الأرض الجديدة، وأسَّست الولايات المتحدة الأميركية.

وعندما استتبَّت الأوضاع للنظام الأميركي الجديد، وتثبَّتت الولايات المتحدة من قوّتها، بدأت تخرج إلى العالم لبسط سيطرتها. كانت الصراعات الداخلية قد انتهت إلى ما انتهت إليه بعد أكبر المجازر في التاريخ.

وجد الأميركيون موقعهم في الإنهاك الأوروبي - الفرنسي والبريطاني أساساً - بعد حربين عالميتين، فتصدرت العالم الغربي وقادت سياسته، متابعة النزعة الاستعمارية التي يكاد يكون قد مضى على انطلاقتها ألف عام، تمكن الغرب خلالها من حشد ثروات العالم وأمواله، ما مكَّنها من الاستمرار زهاء 155 سنة بين انتهاء الحرب الأهلية الأميركية 1865 والانتخابات الأخيرة 2020.

باتت الولايات المتحدة الأميركية مسيطرة على السياسة العالمية، سواء مباشرة، أو بفرض السلطات الموالية لها، أو عبر الخدعة التي كرست بها سيطرتها الاقتصادية، أي اتفاقية "برتون وودز"، التي جعلت الدولار الأميركي العملة العالمية التي تكبل بها سياسات الدول الأخرى، وهذا ما نلمسه حالياً رغم الهزائم العسكرية في غير موضع دولي. 

استندت السلطات الأميركية إلى الثروات التي جمعتها في سياسة الهيمنة المباشرة وغير المباشرة، وأرست مفاهيم العالم الحديث وفق مصالحها، ومن أبرز ما روَّجته كانت ديمقراطية نظامها الموهومة، مكرسةً لترويجها شركات الإعلام الأميركية الضّخمة وملحقاتها من إعلام في دول العالم.

ليس غريباً أن نقرأ صحافياً لبنانياً اليوم مثلاً يتهم الآخرين بعدم فهم الديمقراطية الأميركية، غير مبالٍ بانكشاف زيف حرية الإعلام بشكل جلي، بدءاً من حرب العراق الأولى، يوم لم يكن الجيش الأميركي يسمح للصحافة والإعلام بحرية التجول، وكان ممثل عنه يتلو بياناً مقتضباً عما يريد حصره من معلومات.

الإعلام عينه، بما فيه مراكز الأبحاث، كان إعلاماً موجهاً يدّعي الحرية، وقدَّم صورة نمطية لأميركا - السلطة، مالكة الثروات الطائلة، بأنها بألف خير، إلى أن جاءت انتخابات العام 2017، وفاز الرئيس دونالد ترامب القادم إلى السلطة من سوق العمل الأميركي، ومن خارج مفاهيم التركيبة السلطوية الأميركية التي مثلها الحزبان الأساسيان "الجمهوري" و"الديمقراطي". 

نتائج تلك الانتخابات تشير إلى أزمة أميركية عميقة تغطَّت بدثار إعلامي مزيّف. عشرات الملايين من الأميركيين المهمَّشين عنصرياً وطبقياً، والذين يعدون نتاجاً لنظام الليبرالية، وجدوا في ترامب ما هو خارج المألوف، رغم ترشحه عن الحزب "الجمهوري" الذي انتمى إليه أربع سنوات فقط قبل ترشحه، فصوتت غالبية هؤلاء له، محققة فوزه، من دون أن تكون على صلة تاريخية "ما" به. 

هؤلاء المهمّشون هم التعبير الحقيقي عن الأزمة العميقة التي ضربت الإمبراطورية ونخرت عظامها، حتى إذا جاءت الانتخابات الأخيرة، شعر هؤلاء بالغبن، واتهموا السلطات الحالية بالغش وباغتصاب نتيجة الانتخابات. وكنتيجة لمخاوفهم المسبقة وقناعتهم بمسار النتيجة، أقبلوا على التسلّح بعشرات الملايين استعداداً للموت، دفاعاً عما يعتبرونه حقاً لهم.

هؤلاء الملايين يهدّدون واشنطن والكابيتول، ويريدون استرجاع حقوقهم، مقابل سلطة لا تريد أن تستمع إلى "وجعهم"، فاستقدمت الآلاف من عناصرها لحماية الكابيتول، وحماية بايدن أيضاً، وكأن السلطة اغتصبت السلطة من ملايين المهمَّشين، وتحاول فرض تنصيب "بايدن"، مهما كان، ولو بالقوة، متجاهلة صوت المعترضين الذين غطى الإعلام ومراكز البحوث أوجاعهم التاريخية. 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP