لبنان: صيغتان مختلفتان لمرحلتين مغايرتين.
تترنَّح تجربة الكيان اللبناني، وتتراوح بين مشهدين، راحل ومقبل، فراحل بالتوازي مع عصر بدأ رحيله، ومقبل وفق صورة العصر المنتظرة التي تحبل الأيام والتطوّرات والتّاريخ بها.
إنَّ الكيان اللبناني، كما بقيّة كيانات الشرق الخارجة من رحم تقسيم المنطقة وتجزئتها، أبصر النور بصعود الغرب الذي استولد كيانات الشرق وأقطاره. وبوهن الغرب الحالي، تتراجع الكيانات، وتفقد ضرورتها بفقدان الدور الَّذي رسمت من أجله.
بالنسبة إلى الكيان اللبناني، فقد ولد انعكاساً لتطورات العالم، وصيغةً أولى رسمها المستعمر في تجزئته للإمبراطورية العثمانية - آخر خلافة إسلامية - فكانت صيغة لبنان ضمن تقسيمات المنطقة جسر عبور بين الغرب الوافد بقوة، والعالم العربي الذي كان مغلقاً بوجهه، فكانت الصيغة الطائفية للبنان - عدة شغل للمرحلة ولبناء هذا الجسر - بوجهين، ماروني مهجن بتغرب، وإسلامي عربي الانتماء، الأول يستقبل الوافد للمنطقة، والآخر يؤمّن عبوره إلى عمقه العربي.
كان الغرب بحاجة إلى العالم العربي والشّرق بقوة، نتيجة اقتصاده المنتفخ بصعود حركته الصناعية وبلوغها الذروة، وفي ظل ضرورة إيجاد أسواق لإنتاجه، والحصول على موارد طبيعية تحتاجها صناعته، إضافةً إلى ترويض هذه المجتمعات لتصبح مستضيفة له، تلبية لحاجاته وضرورات عمله.
كان لبنان المنفذ لضرورات الغرب إلى العالم العربي، بتركيبة كانت قادرة على أداء الدور الذي أنيط بها، واستطاعت الصمود على مدى قرن، رغم ما أصابها ما انتكاسات متواترة التفاقم، حتى باتت مترنحة مع بلوغ الغرب كهولته ودخوله بداية مرحلة العجز.
طرأت تحولات واسعة تمكَّن الغرب فيها من الحلول في قلب العالم العربي، ولم يعد بحاجة إلى لبنان كجسر عبور. ومع فقدان هذا الدور، أوجد له أدواراً أخرى، أهمها كيف يستطيع التدخل من خلاله في العالم العربي وتوظيفه في استراتيجياته، فاستهلك تجربته بالاستناد إلى صيغته، وأنهكه حتى حدود الترنح الذي بدأنا نعيش تداعياته منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
إن ما نعيشه اليوم في لبنان من أزمات ومآزق على مختلف الصعد الوطنية هو أحد مظاهر الترنح المتفاقم قبل الانهيار النهائي، في ما لو تركت الأوضاع تجري فيه كما تجري حالياً. يتأزم البلد على يد صانعيه، ويترنح على أيديهم، ويستفيدون مما تبقى منه وفق معاييرهم. يستخدمونه لمحاربة خصومهم، ولو أدى ذلك إلى تدميره، فيوظفونه في الحرب الكونية على سوريا، ويدمرون بنوكه، فتهدر فيها أتعاب الناس، ويستهدف دورها كمركز مالي لدولارهم في الشرق، ويضربون مرفأه، ويهدرون طاقاته في محاولاتهم حصار المقاومة، ولو كلف ذلك وجوده، وفي استغنائهم عن النظام الذي خدمهم منذ الولادة، أي لبنان الطائفي.
المنتظر للبنان
بين بداية انتهاء الدور واستقرار الحالة المستقبلية المفترضة والمبهمة، يعيش لبنان حالة انتقالية تتسم بالتخبط والتأزم، وما التعقيدات التي نعيش تداعياتها سوى تعبير عن الحالة الانتقالية ببداهة طبيعتها غير المستقرة.
تأتي المرحلة الانتقالية التي نعيشها بعد سقوط الهجوم على سوريا، حيث بات العالم على أبواب مرحلة جديدة، سمتها أن تأخذ قوى دولية كبرى صاعدة في الشرق مكانتها على المستويات الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية، وتضاهي بقوتها ما كانت دول الاستعمار الأوروبي تتصف به مطلع القرن الماضي.
ومثلما كانت أوروبا صاعدة، يتواصل صعود الصين وروسيا وإيران، وكل منها بآليات عمل خاصة، فبينما تطرح الصين خط الحرير الذي سيتمكن من خلق أسواق استهلاكية كبيرة في الشرق الأوسط، تتقدم روسيا نحو مختلف دول المنطقة، وتعقد معها الاتفاقيات الاستثمارية في مختلف المجالات، فتتوطد علاقاتها مع مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، ولا يخفى على اثنين حضورها في المشرق العربي، من سوريا إلى العراق، فإيران وتركيا، كما تتقدم إيران بأدوار قوة في مجالات الطاقة والنفط والمواد الاستهلاكية المختلفة. أما التفصيلات، فهي أكثر تشعّباً، ولها معانٍ أكثر تطوراً.
ما يمكن أن نستشفّه من هذه الصورة الضبابية للمستقبل أن المشرق العربي سيكون مساحة التقاء واسعة لمختلف القوى الدولية الصاعدة، من دون أن يكون مقفلاً على الغرب، أي أنه سيكون منطقة التلاقي العالمي لمن يريد العمل والحياة، إذ يترقب الخبراء أن يتحول المشرق العربي إلى أهم بيئة عمل واستثمار في العالم.
ونتيجة لذلك، ستتماهى حدود دوله التي رُسمت في اتفاقية "سايكس - بيكو" مع الخطوط الجديدة التي سترسمها التطورات بصورة موضوعية، من دون أن تكون لها مخططات جاهزة. وربما تتلاشى الحدود أو تبقى رمزية، احتراماً لما تستقر عليه صورة المنطقة وفق خرائط الأمم المتحدة واتفاقياتها.
في هذه الصورة، لا بدَّ من أن يكون للبنان حضور مختلف عن السابق. لن يعود جسر عبور، ولن يتخذ دور الوسيط، بل يمكنه التفاعل مع تطورات المنطقة بحسب الظّروف التي ستنشأ فيها. ونتيجة لذلك، لن تكون تركيبته، في ما لو أعيدت صياغة كيانه وتأكيد حدوده، تركيبة طائفية، إذ لن تكون للطوائف أدوار في هذه الحركة العالمية الكبيرة، ولن تكون هناك حاجة إلى "طائف" أو "دوحة" أو اتفاقيات ثنائية. ما يمكن ترقّبه هو أن تكون له صور مغايرة متماهية ومتفاعلة مع دينامية جديدة بدأت ترتسم في تلاقي القوى الكبرى في المنطقة، وعلى خطوط التماس مع الغرب - سيد المرحلة السابق - الراحل أو المتراجع في المرحلة المقبلة.
حتى بلوغ المنطقة حالة من الاستقرار، ستظلّ حالة لبنان متحركة بين صعود وهبوط، وانهيار وتغيّرات طفيفة، لكن في مطلق الأحوال، بدأت تتأسَّس في المنطقة دينامية عمل وحياة اجتماعية جديدة سيكون لبنان جزءاً منها. وبقدر تفاعله معها، وقدرته على التأقلم السريع مع متغيراتها، وقبوله بالتوجه نحو دول الشرق الداعية للاستغناء عن الدولار والاعتماد على العملة الوطنية، وهي مستعدّة للتعامل وفق هذا الطرح، تنتهي مأساته بسرعة، ويكتب لأجياله عصر جديد.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً