هل يتجرّع بايدن الكأس الإيرانيّة؟
إشارات متباينة تُطلقها الإدارة الأميركية، تتفاوت بين إمكانية التزامها الكامل بالاتفاق النووي والمراهنة على الوقت لتدوير زوايا المعارضة الداخلية الكبيرة ومخاطر الصعود الاستراتيجي الإيراني.
جيك سوليفان الأكثر دراية بمعضلة أميركا في حال التزامها بالاتفاق، وفي حال التسويف، يتحدّث عن الامتثال مقابل الامتثال بخطوات متوازية، بمعنى معادلة رفع العقوبات مقابل التأكد من التزام إيران ببنود الاتفاق، كما يقول. بموازاة سوليفان، يبدو نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية، أقل وضوحاً وتفاؤلاً في حديثه عن طريق طويل و"مهمة استكشافية" يعمل عليها روبرت مالي.
تعبّر هذه التباينات وغيرها عن ارتباك البيت الأبيض في اتخاذ قرار الحسم، فبينما تصل محادثات فيينا إلى مفترق طرق، تشير إيران، على لسان رئيس الوفد عباس عراقتشي، إلى التهديد بإغلاق الباب ما لم تلمس جدّية أميركية برفع العقوبات وطيّ صفحة ترامب.
في هذا السياق، من المفترض أن تبدأ "اللجنة الثالثة" مرحلة الصياغة. ولعلّ الجانب الأميركي يتعمّد الذهاب مباشرة إلى صياغة بنود عملية إجرائية، متخطّياً ديباجة وفلسفة الاتفاق التي تثير عواصف داخلية في الكونغرس والحزب الديمقراطي، وتتيح لإدارة بايدن في الوقت نفسه إمكانية التأويل والتذبذب في كل مرّة تحتاج فيها إلى إدارة الأزمات.
"إسرائيل" على بيّنة من "عودة بايدن" التي أصابتها بخيبة وإحباط، بعد جولة وزير الدفاع لويد أوستن على القيادات الحربية فيها، وبعد كلمة سوليفان في "المجموعة الاستشارية الاستراتيجية" بينها وبين أميركا.
في هذا السياق، يتوجّه رئيس الأركان أفيف كوخافي ورئيس الموساد يوسي كوهين ورئيس "الأمن القومي" مئير بن شبات إلى واشنطن، أثناء صياغة المسوّدة في فيينا، ليجري كلّ منهم مباحثات منفردة لتوزيع الضغوط على المعنيين في أسلوب صياغة كلّ بند، لكنهم، على الرغم من تبجّح نتنياهو بأنه غير مُلزم، يطمحون إلى إقرار توسيع مهمة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرّية. ربما هذا ما أشار إليه سوليفان في عبارة "التأكّد".
"إسرائيل" مُرغمة على التناغم مع البيت الأبيض للمحافظة على وجودها قاعدةً عسكريةً أميركيةً في "الشراكة الاستراتيجية". هذا التناغم يخفّف غلواء اللوبي الصهيوني في أميركا ضد الاتفاق، في وقت يتخذ بايدن ما يسميه رأب الصدع الداخلي واستعادة اللحمة الأميركية أولوية الأولويات، أملاً بتضميد جراح أميركا وبولاية ديمقراطية ثانية.
لكنّ تخفيف الغلواء لا يحدّ من أجيج الصهيونية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وفي الكونغرس الّذي يسعى إلى تشريع قانوني يقضي بإشرافه على الاتفاق مع إيران، من أجل عرقلة سياسة بايدن التي يرفضها أكثر من 140 عضواً وقّعوا رسالة احتجاج إلى أنتوني بلينكن، بينهم ديمقراطيون، مثل مسؤول العلاقات الخارجية بوب مننذير.
مأزق بايدن مع الكونغرس تعرّض إليه أوباما في العام 2015، فلجأ إلى "الإجراءات التنفيذية" وتأويل الاتفاق بأنه أقلّ من معاهدة وأقرب إلى تشريع "كروكر - كاردان"، بحسب التعقيدات القانونية الأميركية.
في هذا السياق، يتّجه البيت الأبيض إلى الالتفاف على الكونغرس، باتخاذ إجراءات رئاسية للتراجع عن "عقوبات ترامب" والتخلّي عن حوالى 800 عقوبة تشمل عقوبات الخزانة الأميركية والبنوك والنفط والشحن والقطاعات الصناعية والطيران... من أصل 1500.
تتفاوض إيران، من جهتها، مع عدوّ لا يُنهي الاتفاق النووي المواجهة الاستراتيجية، فتأخذ ما يمكن انتزاعه في الحرب الاقتصادية كل شيء بمقدار وما لها لها وما على أميركا إن لم تدفعه كاملاً في الملف النووي، تدفعه بغيره في مسار استراتيجي.
لعلّ معضلة أميركا الأساس مع إيران تتمثّل في أنَّ الثورة الإسلامية تستعصي على أميركا والدول الغربية، ويصعب عليها تطويعها في "ستاتيكو" منظومة الهيمنة والتوحّش بالحرب الاقتصادية والإيديولوجية والتهديد بالحرب الأمنية والعسكرية.
الأدهى أنَّ المقاومة الإيرانية تفرض على أميركا والدول الغربية "تغيير السلوك". ففي الملف النووي، تضع أميركا وأوروبا أمام خيارين؛ إما التنازل عمّا تقرّره إيران مساعداً في دفع صعودها الإقليمي والاستراتيجي، وإمّا مواجهة من دون قفازات تعطّل ما تسميه إدارة بايدن "استراتيجية الجهود الدبلوماسية"، للتفرّغ للاستراتيجية الساخنة ضد روسيا والصين.
يكشف الملف النووي أنَّ إيران تحظى بقوّة ردع ضد أميركا أبعد من حليفها الإسرائيلي. ولعل ما يقوله رئيس قيادة القوات كينيث ماكينزي بشأن القلق الأميركي بسبب دقّة الصاروخ الإيراني في النقب، هو ما تقصده إيران، ما لم تقلق من تحليق الطائرات المسيّرة فوق أساطيلها البحرية.
القلق الأميركي يُطمئن إيران ومحور المقاومة إلى أنَّ المحور على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية، فقلق أميركا فيه نجاعة لراحة الأعصاب.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً