الربيع العربي ثورة أم مؤامرة؟ الربيع العربي ثورة أم مؤامرة؟
واقع الحال أن أحداث ــ ثورات العام 2011 هي لحظة انفجار تراكم طويل من أحداث صغيرة وكبيرة بدأت بشكل اضطرابات في منتصف السبعينيات موازية لبداية انهيار الدولة في العالم العربي. فنقطة تحوّل الدولة العربية من آثار حركة التحرر الوطني والاستقلال السياسي في أعقاب هزيمة 67، فتحت الباب واسعاً لردود فعل في أحداث شبه يومية تخللتها إضرابات واحتجاجات وانتفاضات لا تُعد على مستوى العالم العربي.
تأتي الذكرى السادسة لما جرى في مصر والعالم العربي العام 2011 من أحداث جلل، ولم نعرف بعد ما هي؟ وكيف كانت؟ وما هي أسبابها ولماذا؟ وفي ذلك إشكاليات ثقيلة على مستوى المعرفة والقراءة والرؤى. فهل كان الذي جرى ثورة أم مؤامرة، على ما ينقسم جُل المحللين ويختلفون. وهل نتج عن الأحداث ــ المؤامرة كل هذا الخراب والدمار وانفجار الهمجية، كما يذهب بعض النُخب الثقافية والسياسية، أم أن الخراب نتاج إجهاض الثورات الذي أدّى إلى فوضى سوداء عارمة بحسب بعض التعليقات هنا وهنالك؟ ومَن أجهضها وكيف تمّ له ذلك وما هي علّة الأحداث أو الثورات التي أتاحت إجهاضها؟
والمفارقة أن ما حدث قبل ست سنوات في مصر والعالم العربي، لم يسبق في التاريخ القديم والحديث أن شاهد شبهَه عدد الذين شاهدوه بأم العين، أو شاركوا وقت حدوثه بالصوت والصورة وفي التعليق والخبر والرأي والتواصل... ومن كل حدب وصوب. لكن في المقابل لم يتعرض حدث مشابه في التاريخ القديم والحديث إلى لغط مثيل وإلى طوفان من الأقاويل من دون قراءة متأنية تحت القشرة السطحية ومن دون حفر ودراسة جدّية في العمق، على الرغم من وفرة المعطيات وركام هائل من المواد الخام. ففي هذا الإطار كشفت الأحداث بعُجرها ومُجرها بعد ست سنوات أن الفيض الكبير من المفكرين والخبراء والاستراتيجيين الذين يتناولون الأحداث لا يتقنون مناهج البحث في ادعاءات اختصاصهم. وأن أدوات معارفهم لا تتجاوز أكثر من قول على قول في مدح "الربيع العربي" وهجائه. بل لعلها كشفت أساساً عن سقم الثقافة السياسية الرائجة في سوق القراءة والتأريخ غير المؤهلة معرفياً لقراءة ظاهرة سياسية ــ اجتماعية بأكثر من كلمتي الربيع والخريف، بحيث تقعان موقع الاستهلاك السريع في الجذب والنبذ. وقد يكون شباب الأحداث ــ الثورة قبل ست سنوات ومعظم شيوخها، هم أول ضحايا استهلاك هذه الثقافة السياسية الرائجة على شكل أحابيل لتغيير النظام السياسي في إصلاحات دستورية مزعومة لإدارة الحكم الرشيد، وهي ليس لها شأن فكري وواقعي كبير في تغيير النظام السياسي للدولة سوى في أنظمة كالبحرين التي ثارت لإصلاح شكل الحكم وليس تغيير النظام. والأدهى أن هذه الأحابيل في تزوير تاريخ ديموقراطية الدولة وفلسفتها، ترسّخت وتعمّمت آفاتها خلال أربعة عقود بين معظم الخاصة والعامة كادّعاء بناء النظام السياسي للدولة عبر "الحكم الرشيد" في إشاعة الحريات، وهو ادعاء مرتع للذئاب ولا تُغتفر فيه براءة الحملان.
واقع الحال أن أحداث ــ ثورات العام 2011 هي لحظة انفجار تراكم طويل من أحداث صغيرة وكبيرة بدأت بشكل اضطرابات في منتصف السبعينيات موازية لبداية انهيار الدولة في العالم العربي. فنقطة تحوّل الدولة العربية من آثار حركة التحرر الوطني والاستقلال السياسي في أعقاب هزيمة 67، فتحت الباب واسعاً لردود فعل في أحداث شبه يومية تخللتها إضرابات واحتجاجات وانتفاضات لا تُعد على مستوى العالم العربي. وشملت ردود الفعل مناهضة سياسات سلطات الحكم في التخلّي عن دور الدولة نتيجة ما سمي "بالانفتاح". وهو سلّة متكاملة بين التبعية السياسية والتفكك من قضية احتلال فلسطين والقضايا الاقليمية الجامعة، وبين الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية على السواء. وقد استفحل انهيار الدولة في العقدين الأخيرين بفعل هشاشتها في تحوّلات المنظومة الدولية في اتجاه العولمة النيوــ ليبرالية. ومعها استفحلت أزمات الاستعصاء الناتجة عن الغزو العسكري والاستيلاء على الثروات الطبيعية في تحطيم دور الدولة وفتح الأسواق وإلغاء القطاع العام ...إلخ ولم تهدأ الأحداث المطلبية وأحداث المناهضة ضد فساد السلطة واستبدادها وكذلك أحداث مقاومة الاحتلال والغزو، في مواجهة آثار سياسات الاضطهاد الوطني والتهميش الاجتماعي وهدر الحقوق الطبيعية والمكتسبَة. وحين انفجرت الأحداث ــ الثورات في العام 2011 اشتركت فيها فئات اجتماعية مختلفة الآمال والطموحات بحسب مخزون كل منها تحت القشرة الظاهرة على الرغم من طغيان تأويلات اللحظة في وسائل الإعلام والتواصل الشبابي. فقراءة هذه الأحداث ــ الثورات من رأس الدبوس في اختزالها إلى ربيع الحريّة ضد الاستبداد، لا تغيّر من تشابك عمق أبعادها الاجتماعية والوطنية والجيوسياسية لكنها تكشف ضحالة قراءتها وقرّائها. وهي ضحالة في منابعها ومصادرها الغربية ليست منزّهة عن المصالح الخاصة، كما مصالح الأتباع المحليين الذين جنّدوا وسائل إعلامهم ومفكريهم من تلامذة الخبراء الغربيين لنشرها وترويج سلعة سريعة الاستهلاك في سوق التداول العربية.
وكما أن انفجار الأحداث ــ الثورات لم يكن مؤامرة مصطنعة، فإن قراءتها وترويجها كربيع حريات ضد الاستبداد ليسا مؤامرة في الخفاء. فقد تمّ انتاج ثقافتها وتسويقها في وضح النهار جهاراً طيلة عقود بكلفة مئات مليارات الدولارات في مراكز الأبحاث والمعاهد الغربية والدولية، ولا سيما التي تربّى برعايتها الخاصة معظم الخبراء العرب ومفكريهم ومعظم ناشطيهم.
ففي جوار سلطات الحكم التي فكّكت هياكل الدولة العربية في تبعيتها السياسية وفي فسادها واستبدادها، غطّت هذه النخبة سياسات سلطة الفساد والاستبداد لمصلحة توسّع حرية الرأسمال في الوصايا الغربية والدولية. لقد ساندت انعزال كل بلد عربي عن جواره الإقليمي فيما يسمى السلام وما وصفته بنبذ اللغة الخشبية في الأمن الإقليمي ودور الدولة الناظم للاستقرار الاجتماعي. وبشّرت بما لم تقدر عليه سلطة الاستبداد بالانفتاح على الغرب والسوق الدولية في تبجيل معيار النمو في المنظومة الدولية عبر التجارة الحرّة وخوصصة الثروات العامة لاستيلاء الاستثمارات الأجنبية عليها. كما تبنّت الحريات الفردية وما تسميه حقوق الأقليات أساساً في هرطقة الدولة الديمقراطية المزعومة، وليس سبيلاً لضمان الحرية الشخصية وحرية المعتقد كتحصيل حاصل مجمل الحقوق الوطنية والاجتماعية والحقوق الإنسانية (العمل والمأوى والطبابة والتعليم...) بحسب تجربة الدولة الديمقراطية التي شارفت على الانتهاء في أوروبا. وهذا الأساس المقلوب على قفاه في بناء الدولة هو مدخل تفتيت الجغرافيا السياسية العربية والإقليمية في "كيانات" طائفية واثنية، واستبدال السلطة الاستبدادية المركزية بسلطات أكثر تبعية وطواعية في استبدادها الفطري وأكثر قابلية للاحتراب وخوض الحروب بالوكالة.
ما علقت عنده الأحداث ــ الثورات من ضحالة القراءة والرؤى، أشدُّ هولاً في أعقابها. ولا تبدو بوادر بيّنة في اتجاه البحث عن أسس أخرى لإعادة بناء الدولة العربية، غير الرائجة في وصفات المؤسسات الغربية والدولية للقضاء على دور الدولة وشرذمة المجتمعات. وفي مقابلها يتعطل الانتاج الفكري والسياسي بالكشف عن اكتشاف المؤامرة.