المقاومة الاجتماعيَّة والتوجّه شرقاً.. لماذا؟
حزب الله الذي ينأى عن الصراعات الداخلية من أجل درء الفتنة والفوضى الهدّامة، بناء على أولوية الأولويات، وهي المقاومة في مواجهة "إسرائيل" وأميركا، لردع العدوان وتعطيل مشاريعهما الرامية إلى التفتيت والسيطرة على مقدرات المنطقة وثرواتها. فقد حاول الحزب في بداية التسعينيات الدفاع عن حقوق المحرومين، وقدّم شهداء في التظاهرات المطلبية، حين بدأت "السياسة الحريرية" تعصف بحقوق الفقراء والمهمّشين منذ مطلع عهدها بسلطة الحكم.
لكن الحزب المقاوم بدا ناتئاً عن "الإجماع الوطني" الذي عمل حينها على التشكيك في لبنانيته، بهدف نزع سلاح المقاومة في مشروع "الانفتاح على المجتمع الدولي"، طمعاً بمنظومة الاستثمار في الريع المالي والمراهنة على السلام مع "إسرائيل".
ما سُمّي بالإجماع الوطني والتوافق الذي لم يشمل حزب الله، ارتكز على طموح شعبي عارم لطيّ مآسي الحرب الأهلية، وعلى دعم إقليمي عربي للدستور الجديد في الطائف، وعلى توافق الطبقة السياسية والسلطة على الإطاحة بهيكل الدولة والمؤسسات العامة والخاصة، لمصلحة المحاصصة بين أطراف السلطة السياسية وزبائنيتها التجارية والمصرفية في السيطرة على توزيع المغانم والثروة العامة. وقد نال هذا الاتجاه رضا شعبياً وسياسياً واسعاً اشترته الطبقة السياسية والحكومات المتعاقبة بإفساد أنماط العيش الشديدة البذاءة الاستهلاكية، حتى اندلاع الانتفاضة وقت وقوع الجرّة المكسورة.
ولكن السياسة الاقتصادية - الاجتماعية المعروفة بالسياسة الحريرية، هي المحرّك لخراب الدولة وإطلاق العنان لفساد ونهب السلطة والطبقة السياسية، وأيضاً المصارف ورجال الأعمال وتجّار الاستيراد والوكالات الحصرية... في اعتمادها على سياسة الديون، وفي انفتاحها على النموذج النيوليبرالي والسوق الدولية، بذريعة إعادة الإعمار المولّدة لتنشيط اقتصاد الريع وتجارة الاستيراد والسمسرة، وأيضاً وأيضاً تعميم الاستهلاك البذيء الذي أطلق عليه أقطاب تخريب البنى الاجتماعية وصف "ثقافة الحياة".
التوجّه إلى اقتصاد الديون والريع المالي غرباً هو محرّك الانهيار
هذا المحرّك لسياسات الخراب الاجتماعي وتدمير مؤسسات الدولة، ليس من بنات أفكار رئيس وزراء فذّ أو جوقة "الخبراء والمستشارين والتكنوقراط..." الذين أتى بهم رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، ثم الرئيس السنيورة من بعده، لكي يحملوا الدولة والاقتصاد - الاجتماعي إلى الانهيار، إنما هو سابق لأزمات لبنان الحالية، بدءاً بسياسة السادات في مصر مع كامب ديفيد، في سياق استراتيجية الدول الغربية والمؤسسات الدولية (ولا سيما البنك الدولي وصندوق النقد) منذ السبعينيات في العالم الثالث، قبل طغيان منظومة التوحّش النيوليبرالي في السيطرة على الاقتصاد العالمي.
ولعلَّ "استراتيجية الديون" والتبعية للسوق الدولية في العالم الثالث، هي أكثر مسألة استراتيجية حيوية شغلت الكتّاب والباحثين في أزمات الانهيار، إلى درجة أن الأساتذة يدرّسونها لطلاب الثانويات في بعض الدول الأوروبية. وقد تكون كتابات إيريك توسّان وغوستاف ماسيا بشأن "نموذج الديون" والريع المالي الأكثر جدّية لكشف أبعاد أزمات الدول والمجتمعات في العالم الثالث، في تبعيتها لاستراتيجيات الدول الغربية، لكن تقرير جوزيف ستيغلز "الوهم الكبير" الذي قدّمه إلى مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية في العام 2000 هو الأوضح في استخلاص الدروس من تجارب "الانفتاح" على السّوق الدّولية، وعلى التّجارة الحرّة والديون المرّة، بالأرقام والوقائع وأهداف ما يسمى الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية.
انتفاضة شعبية متأخّرة عن الأوان
الانتفاضة الشعبية الواسعة في 17 تشرين الأول/أكتوبر ضد الإفلاس والانهيار الاقتصادي، تأخّرت 30 سنة وأدّت إلى هدم وتخريب كل ما يمكن أن يُعوّل عليه لوقف الاهتراء، فظنّها الكثير من القاعدين أكثر من 3 عقود بانتظار تحرّك الشارع، أنّها "غير مسبوقة" في لبنان، نظراً إلى اتساع المشاركة في التظاهرات من "جميع المناطق وجميع الطوائف"، كما يقولون، لكنهم استخلصوا بشكل متسرّع من هذه المشاركة الواسعة "المفاجئة"، لاعتقادهم الطويل بموات الشعب اللبناني، أن الانتفاضة تعبّر عن الوحدة الوطنية (التي يُضاف إليها دوماً وصف "العيش المشترك" بين الأنواع البشرية المتضادة) في تخطّي الانقسامات الطائفية والحزبية الضيّقة، وأن الشعارات المطلبية التي يرفعها المحتجّون ضد السلطة والطبقة السياسية ترقى إلى مستوى "الثورة"، لكي تحلّ محل النظام السياسي الفاسد وبناء الدولة المدنية "للمواطنين والمواطنات"، شرط ذهاب السّلطة إلى "حكومة تكنوقراط" من تلاميذ المؤسّسات الدولية النيوليبرالية لا محالة، وإلى انتخابات مبكرة.
والحقيقة هي انتفاضة غير مسبوقة في مرحلة السبوت الطويل بعد الطائف وسياسات الخراب والانهيار التي تلت الحرب الأهلية، لكنّها مسبوقة في ظروف أكثر ملاءمة قبل الحرب، حين كان هيكل الدولة لم يزل سليماً وأكثر صحيّة في معظم المؤسسات والإدارات العامة التي وقعت أسيرة براثن السلطة وزبائنيتها في ما بعد.
كما أن الأرضية الاجتماعية لم تكن على غرار كونفدرالية الطوائف الحالية. في المقابل، كانت الحركة الطلابية والشبابية ونقابات العمال والمزارعين والحركة السياسية والحزبية... إلى جانب المقاومة ضد "إسرائيل"، ذات صدقية جدّية في ظروف إقليمية ودولية وعربية أقلّ قبحاً من اليوم، لكن الظروف الأكثر ملاءمة، وكل الآمال الممكنة بإصلاح النظام الأقل اهتراء وقتها، لم تمنع غرق لبنان في حرب طائفية دامية على خطوط التماس بين المناطق. ولم يخرج منها لبنان بغير إعادة إنتاج النظام الطائفي "المزرعة" بوجوه وأقطاب جديدة أكثر شراسة في اتفاق الطائف، الذي أسّس لاستكمال انهيار الدولة وتعميم النهب والفساد.
والخلاصة المتمعّنة في مأساة الحرب الأهلية هي أنّ انتفاضة شعبية مطلبية واسعة لا تكفي لتغيير النظام، ولا حتى لإصلاحه، إذا لم تتوفّر لها رؤى بديلة وبرنامج سياسي عملي يحرّر طاقات أصحاب المصلحة في قاعدة الهرم الاجتماعي، ولا تضمن عدم الذهاب إلى الدمار في الاحتراب الطائفي والاقتتال العصبي الدموي. كما أن شروط تغيير أسباب انهيار الدول والإفلاس الاقتصادي والمالي، لا تقتصر على الانتفاضات الشعبية المطلبية وحدها في ظروف إقليمية ودولية غير ملائمة، ومن دون قيادات ورؤى فكرية - سياسية عملية في المقاومة الاجتماعية للحلول والبدائل على مستوى الحقل الجغرافي - التاريخي الإقليمي.
مطالب منصّات الحراك هي مراهنة على تجديد النظام
اندلاع الانتفاضة رأى فيه حزب الله فرصة ذهبية للضغط على الحكومة والطبقة السياسية من أجل وقف الانهيار الذي يهدّد بمخاطر فوضى أمنية تعمل أميركا و"إسرائيل" على انفجارها لاستهداف الاستقرار والمقاومة، لكن الحزب سرعان ما استشعر مخاطر التهديد، من خلال تزايد وتوسّع نشاط المنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية التي لم تخفِ يوماً اندماجها في "شرعية المجتمع الدولي" المعادية لأي طموح في تفكيك التبعية للمنظومة الأميركية والغربية، فوظيفتها الأساس هي الدفاع عن استراتيجيات المنظومة النيوليبرالية، وتنظيف أوساخها، عبر مكافحة الفساد السياسي، بدعوى أنه يمنعها من تحقيق نعيم الجنّة على الأرض، وهو الخيار بين الكوليرا والطاعون.
بقطع النظر عن هذه الجماعات الأكثر تدريباً وتأهيلاً وتمكيناً على التنظيم والتأثير، فإن معظم تعبير المنصّات السياسية لا يبعد كثيراً عن الثقافة السياسية السائدة في سياق المنظومة النيوليبرالية الدولية، فالمعارضات الوطنية المشاركة في منصّات الحراك، لا يشوب انتماءها الوطني ودفاعها عن المقاومة ضد أميركا و"إسرائيل" شائبة تُذكر.
لكنَّ المعارضات الوطنية تعود في تعبيرها السياسي بالتواتر إلى "البرنامج المرحلي" للحركة الوطنية في الحرب الأهلية، وتعود بعفوية فكرية متقادمة إلى مرحلة إزالة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، حين كان الانتخاب والبرلمان يحظيان بهامش واسع من حرية تقرير السياسات، ولا سيما السياسة الاقتصادية - الاجتماعية التي تراعي الطموح الشعبي "للدولة الراعية". والأدهى أن رؤى منصّاتها السياسية (ائتلاف الكومودور ومواطنون...) لا تقارب أي طموح جدّي لإصلاح النظام السياسي في دستور الطائف، بالعمل على إعادة التأسيس في جمعية تأسيسية، ولا تشغلها مسألة تحرير إدارات الدولة ومؤسساتها من براثن السلطة (عدا المطالبة باستقلال القضاء)...
بيت القصيد هو اعتقادها بأن السياسة الاقتصادية - الاجتماعية التي أدّت إلى الانهيار والإفلاس المالي، هي نتيجة نظام المحاصصة الطائفية وفساد السلطة والطبقة السياسية، وأن إصلاحه يؤدي إلى تغيير شوائب "الوصفة السحرية"، كما تروّج المنظومة النيوليبرالية والمنظمات غير الحكومية، فهذا الاعتقاد يدل على غربة المعارضات الوطنية عن قراءة التحوّلات في المنظومة الدولية، وعن إدراك السياسات الاقتصادية - الاجتماعية النيوليبرالية التي تتحكّم بالدول والمجتمعات كافة (عدا الدول المقاومة القليلة)، وتؤدي إلى الفساد "القانوني" والفساد الشرعي الخاضع لقوانين المنافسة بين التماسيح والذئاب، وإلى الإطاحة بدور الدولة، وبأحوال المعاش والعمران في المجتمعات، سواء في لبنان أو في غيره، وإلى تعميم فساد الحياة الآدمية وحياة الأرض.
والمفارقة أن هذه المعارضات تنظر في أحوال المنظومة الرأسمالية وكوكب الأرض من أضيق نقطة في لبنان، ولم تنتبه إلى أجراس الإنذار التي قرعها الكثير من المفكرين المرموقين في مناهضة المنظومة النيوليبرالية منذ التسعينيات، كرفيقهم جان فرنسوا غودون (الإبادة الجماعية الممنهجة)، أو جان زيغلر (العبودية الجديدة ــ بشر للرمي)، أو نعومي كلين (عقيدة الصدمة ــ صعود رأسمالية الكوارث)... فضلاً عن أهم الخبراء المنشقين عن المؤسَّسات الدوليّة (جوزيف ستيغلز، جيمس ميد...).
المقاومة الاجتماعية لتفكيك أسباب الأزمات والانهيار
التغيير من فوق في مرحلة سيطرة النموذج النيوليبرالي على الاقتصاد العالمي، هو مراهنة عرقوبية، ليس في لبنان فحسب، بل حتى في الدول الأوروبية التي لا تزال تحتفظ بطقوس اللعبة الانتخابية الديموقراطية. ولعل التجربة الانتخابية التونسية الأرقى في العالم العربي، تبرهن على أن تغيير السلطة في اللعبة الانتخابية لم يغيّر نظام ابن علي، مثلاً، الذي تستفحل أزماته الاقتصادية والاجتماعية في زيادة البؤس والتهميش، في إطار النموذج النيوليبرالي والاستراتيجيات الغربية التي تستعصي مواجهتها من فوق، ويستعصي تفكيكها من غير تكامل المقاومات الحربية والفكرية والسياسية... في مواجهة النموذج، بمقاومة اجتماعية وحلول بديلة قاعدة الهرم الاجتماعي من تحت.
بموازاة الانتفاضة الشعبية لمواجهة ذئبية فساد السلطة والطبقة السياسية وزبائنيتها "المافيوزية" من أجل محاسبتها واسترجاع الثروات العامة والأموال المنهوبة، فإن المقاومة الاجتماعية تحرّر المزارعين والحرفيين والصناعيين والطلاب وصغار الكسبة... من العبودية العصرية في خدمة الريع المالي والمصرفي نحو صناعة الحياة وتقرير الخيارات الآدمية الكريمة.
فالمقاومة الزراعية هي فلسفة حياة في إنتاج الأمن الغذائي النظيف، وإعادة الاعتبار إلى المذاق الطبيعي الذي أفسده الغذاء الصناعي المستورد علفاً ملوّثاً بالسموم الكيميائية التي تبدّد ثروات التنوّع البيولوجي والمياه والبيئة (الجهاد في مواجهة عالم ماكدونالد، بنجامين باربر، لندن، 1995). والمقاومة الصناعية هي في إطار صناعة الحياة، للتلذّذ بنعيم إنتاج الأيدي المحليّة، والتخفيف عن عبودية النساء والأطفال الذين تمصّ دمهم شركات "الماركات" الغربية في العالم الثالث.
والمقاومة السياسية هي لإعادة الاعتبار إلى الإدارات الذاتية في المحليات والبلديات في إدارة الشراكة والتوأمة بين المحليات الوطنية والإقليمية والدولية في تنظيم الشؤون التي تتخلّى عنها الدولة، كالتبادل المتكافئ والطاقة النظيفة والغذاء النظيف والنفايات وحماية البيئة... والاتجاه شرقاً هو لإزالة الغشاوة عن قدر البقاء في حفرة آسنة نحو مشرق الشمس والاتجاهات الأربعة، بدءاً من الدول العربية والحقل الإقليمي، من أجل التعاون والتضامن لتفكيك منظومة التوحّش والتحرر من السجون المصطنعة في زرائب القطيع للذبح والسّلخ.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً