ما هي بيروت التي دمّرها توحّش الأمس واليوم؟
نكبة "داون تاون" قبل فاجعة المرفأ
ما هشّمته مدافع الحرب، استغلّته الوحوش الكاسرة لتدمير قلب لبنان في بيروت بذريعة "إعادة الإعمار". فرشّوا الملح على أعقاب "البلد" واستولوا على روح العاصمة في أسواقها لطرد اللبنانيين من مساحة التلاقي المشترك مع المناطق، إلى خارج "البرج" والسور الروماني.
لقد مزّقزا النسيج الاجتماعي في العاصمة ونشروا موات الحياة الاجتماعية والثقافية من أجل تعميم النهب والفساد في استيلاء شركة "سوليدير" على الأرض وعلى قبور المعالم والمحال والمنشآت، لكنهم زيّنوا التابوت الذي سمّوه "داون تاون" لتلذّذ الأطفال في طعم السم. وبعدها طردوا أهل بيروت من الغربية إلى عرمون.
لم يولدوا في بيروت ولا أهلهم وأجدادهم يعرفونها. فالرئيس سليم الحص البيروتي لا يملك أكثر من شقة سكن في حي شعبي، والبيروتي الآخر تمّام صائب علي سلام لا يزال يسكن في دارة أبيه الموروثة عن جدّه. أمّا الرئيس الحريري الطارىء على بيروت على مطيّة "الإعمار"، فقد "قشّ" معالم بيروت التاريخية وليس أحدها المسمّى "بيت الوسط" سوى قصر رئيس الجمهورية بشارة الخوري الذي أخذه عنوة من الورثة الشرعيين، كما يقول مالك الخوري حفيد بشارة الخوري.
وما فاض عن الحريري وموظفيه من "خبراء الاستثمار" والمصارف، أخذه فؤاد السنيورة وأخذه الميقاتي والصفدي والسياسيون الجدد في الأملاك البحرية التي شيّدتها شركة "سوليدير" من ردم مباني "البلد" وسمّوها "الزيتونة ب" إشارة إلى تمجيد إرث مرتع الفساد والتجسّس الدولي في منطقة الزيتونة القديمة.
خوفاً من إحياء الذاكرة الخصبة وتناغم النسيج الاجتماعي، اقتلع الدمار والفساد تراث بيروت في العمارة اللبنانية التي انتشر طرازها منذ عام 1860 في مرجعيون والنبطية والجبل وسوريا وفلسطين.... ففي نهاية الحرب أحصت مديرية التراث في وزارة الثقافية اللبنانية 6800 بيتاً تراثياً قابلاً للترميم في بيروت، يعود طرازها المعماري إلى ما قبل ازدهار المرفأ الذي بناه الفرنسيون عام 1894.
الوزيران غابي ليون وسليم وردة يعترفان بأن سماسرة "سوليدير" وحكومة "مجلس الانماء والإعمار"، فرضوا عليهما الخيار بين الرشوة وقبول الفساد والدمار انصياعاً للقرار السياسي. فالبيت التراثي ليس إرثاً معمارياً يدلّ على إبداع أهل بيروت والمناطق فحسب، بل هو نمط حياة على النقيض التام والكامل لأنماط بقاء حكومات الخراب وشركات دفن الموتى والضدُّ يُثبت حسنه الضدّ.
اقتلاع البيت التراثي يعود إلى انتقام إيديولوجي وقرار سياسي لقتل شاهد حيّ على عقلانية الانسان المنتج في حسن إدارة التناغم بين الانسان المنتج والطبيعة والبيئة، من أجل ترويج "ثقافة الحياة" في قنن الدجاج التي تعيش على استهلاك العلف المسمومة بذوره وسماده الكيماوي ومبيدات الرش. وعلى استيراد الملبس والاحتياجات من السوق الدولية وعلى الخضوع لعبودية الدولار قيمة عليا تدل على الترقّي، استلاباً لسردية "كل شىء افرنجي برنجي".
هو الشاهد الحي في بئره وسط الدار، على احترام ثروة المياه نعمة تستحق جمعها من الأمطار والمحافظة عليها لري حديقة الخضار وري الماعز والدجاج من أجل الاكتفاءالنوعي الذاتي من مشتقات الحليب. وهو الشاهد الحي على حسن التدبير في الغذاء وفي خبز الرغيف وتدوير الملبوسات الرثّة...
وفي إقفال منبع النفايات من مصدره. فبيروت لم يتسمّم بحرها ونهرها وهواءها ولم تغرق في النفايات كما تغرق بيروت التي قتلت روحها منظومة الخراب وزيّنت قشرتها الخارجية بالخشاخيش. فمن أصل بيوت العائلات البيروتية التراثية، بقي نحو 800 في الجميزة والأشرفية والمدوّر يدرّ لعاب السماسرة للاستيلاء عليها بذريعة "إعادة إعمار" ما فجّرته فاجعة المرفأ.
المرفأ صورة عن مرافق نظام الخراب
منظومة الفساد والخراب في مرفأ بيروت المسؤولة عن الانفجار والقتل والدمار، تعشّش في كل المرافق والمؤسسات والهيئات والإدارات منذ عقود طويلة وكلّها تقتل وتدمّر ومن لم يمت بالسيف مات بغيره والقتل واحد. فقد تأسّس توحّشها في غابة اتفاقية الطائف لتوزيع نهب المغانم السائبة والاتجاه غرباً نحو "الدول المانحة والمجتمع الدولي"، لتخريب البنى الانتاجية المحلية والثقافة الاجتماعية في فوضى "الشاطر بشطارته".
تنبع جرائمها وينبع فساد السلطة والطبقة السياسية من اهتراء النظام السياسي الذي يتبنّى نموذج الخراب النيوليبرالي الأميركي ويتيح للطبقة النافذة ارتكاب الجرائم الاقتصادية والسياسية والدفاع عنها بالتضليل والدسّ والتحريض خدمة لانتفاخ كروشها وجيوبها.
النظام السياسي في لبنان هو في جوهره، نقيضٌ للحد الأدنى الأدنى من جوهر الأنظمة السياسية في أي أرض بشأن القابلية الطبيعية للتغيير والتكيّف والتطوّر. لكنه في لبنان "رسالة" سماوية "للكيان والعيش المشترَك" نظراً إلى اعتبار اللبنانيين أنواعاً مختلفّة بماهيتها وولادتها في كواكب حمراء وسمراء وبيضاء.... لا يمكن انصهارها في بوتقة إنسانية موحّدة.
لا أمل من التصويب على نتائج الانهيار والدمار، حرصاً على حماية نظام "الكيان ــ الرسالة". ولا أمل في المراهنة على تحسين الأداء في انتخابات برلمانية وحكومة ملائكة تعتمد "الشفافية" كما يوصي "المجتمع الدولي" في وصاياه المعروفة نتائجها في كل تجارب "العالم الثالث"، لزيادة الشيء خراباُ من الشيء نفسه.
فاجعة المرفأ استفزّت نخوة شباب وشابات في مقتبل العمر يشمّرون عن سواعدهم "لتحمّل مسؤولية ما تتخلّى عنه الدولة"، كما قال معظمهم. وحثّت معظم شعوب العالم والجاليات اللبنانية والعربية للتعاطف والتضامن وجدّ السعي للمساعدة في إعادة البناء.
على نقيض هذا الحسّ الانساني والسياسي الطبيعي، يطمع بعض الجمعيات غير الحكومية التي تنتفخ ورماً جرّاء التغذية بمساعدات الضحايا، إلى التصويب على المقاومة "المسؤولة عن منع بناء الدولة". فهي تأمل تحسين وجه النظام القبيح بمسحوق "المجتمع الدولي" الاميركي والفرنسي.... ومحاربة سلاح المقاومة في سبيل "السلام" ومزاعم الازدهار والاستقرار كما سرَت في بلدان عربية أخرى تغرق في الخراب منذ "كامب ديفيد". ولا غرو بأن يلبس كلٌّ من أولاد نظام التوحّش البربري "قبعَه وينزل مع ربعه".
على نقيض هذا الحسّ الانساني والسياسي الطبيعي، يطمع بعض الجمعيات غير الحكومية التي تنتفخ ورماً جرّاء التغذية بمساعدات الضحايا، إلى التصويب على المقاومة "المسؤولة عن منع بناء الدولة". فهي تأمل تحسين وجه النظام القبيح بمسحوق "المجتمع الدولي" الاميركي والفرنسي.... ومحاربة سلاح المقاومة في سبيل "السلام" ومزاعم الازدهار والاستقرار كما سرَت في بلدان عربية أخرى تغرق في الخراب منذ "كامب ديفيد". ولا غرو بأن يلبس كلٌّ من أولاد نظام التوحّش البربري "قبعَه وينزل مع ربعه".
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً