هل تتحول القمم العربية والإسلامية إلى سرادقات للعزاء؟
العالمان العربي والإسلامي يملكان من المقومات ما يتيح لهما عملياً الانتصار على المشروع الصهيوني الذي يشكل تهديداً وجودياً على كليهما، لكنهما يفتقدان لإرادة المواجهة.
في 11 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2023، انعقدت في مدينة الرياض قمة مشتركة بين الدول الأعضاء في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، بناء على دعوة موجهة من المملكة العربية السعودية، وذلك لبحث المواقف والإجراءات التي ينبغي للدول المشاركة اتخاذها في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ورغم أن هذه القمة لم تنعقد إلا بعد خمسة أسابيع كاملة من اندلاع الحرب على القطاع، سقط خلالها آلاف الضحايا ودمرت أجزاء واسعة من القطاع، لم تستغرق سوى ساعات قليلة، وصدر في ختامها بيان مطول تضمن 31 بنداً.
وبعد عام بالضبط من انعقادها، وتحديداً في يوم الاثنين الموافق 11 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2024، انعقدت قمة طارئة ثانية للدول الأعضاء في المنظمتين نفسيهما، وبدعوة من البلد المضيف نفسه، ولبحث الموضوع نفسه الذي انعقدت من أجله القمة الأولى، مع فارق بسيط وهو أن حرب الإبادة الجماعية لم تعد محصورة في قطاع غزة، وإنما "جرى توسيع رقعة العدوان الذي امتد ليشمل الجمهورية اللبنانية، وقام بانتهاك سيادة كل من جمهورية العراق والجمهورية العربية السورية والجمهورية الإسلامية الإيرانية"، وذلك وفقاً للنص الوارد في ديباجة البيان الصادر عن القمة الثانية، فضلاً عن أن عمر الحرب المشتعلة في المنطقة وقت انعقاد القمة الأخيرة كان قد طال ليصبح 400 يوم بالتمام والكمال، وهي القمة التي لم يستغرق انعقادها أيضاً سوى ساعات قليلة، وصدر عنها بيان مطول تضمن هذه المرة 38 بنداً.
إذا أجرينا مقارنة بسيطة بين البيانين الصادرين عن هاتين القمتين فسوف نستنتج أنهما يكادان يكونان صورة طبق الأصل، سواء من حيث الشكل أو المضمون، مع فارق بسيط وهو أن الإحالات المشار إليها في البيان الصادر عن القمة الثانية لم تعد تتعلق بما قام به الكيان الصهيوني من انتهاكات في حربه على قطاع غزة فحسب، وإنما امتدت لتشمل ما قام به هذا الكيان من انتهاكات في لبنان والضفة الغربية ودول عربية أخرى أيضاً، وكان عليها أن تأخذ في اعتبارها في الوقت نفسه مجمل التطورات التي طرأت على الأوضاع في المنطقة وما صدر عن المؤسسات الدولية المختلفة، خصوصاً الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، من قرارات تتعلق بتلك الأوضاع والتطورات.
فقد امتلأ البيانان بعبارات تنحو نحو استخدام مفردات الإدانة والشجب والتنديد، وأخرى تنزع نحو حث المجتمع الدولي على القيام بواجباته وتحمّل مسؤولياته في ردع العدوان ورفض ازدواجية المعايير، وثالثة تدعو إلى معاقبة "إسرائيل" ومنع تصدير الأسلحة إليها بل وإلى تجميد عضويتها في الأمم المتحدة، غير أن أياً منهما لم يتضمن سوى عبارات قليلة جداً تخاطب الدول العربية والإسلامية نفسها وتطالبها بما ينبغي لها القيام به لردع العدوان وممارسة الضغوط على القوى المنخرطة فيه ومعاقبة المعتدي، كي تصبح الدول المعنية قدوة لغيرها وتنجح في وضع الدول المترددة والباحثة عن أعذار لتبرير سلوكها الداعم للكيان في موقف محرج أو غير مريح.
وعلى سبيل المثال، فقد اكتفت القمة الأولى بتكليف الأمانة العامة في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي "بإنشاء وحدتي رصد لتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي"، وتكليف وزراء خارجية بعض الدول بمهمة "بدء تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق سلام دائم وشامل وفق المرجعيات الدولية المعتمدة"، ودعوة الجميع إلى ممارسة "ضغوط دبلوماسية وسياسية وقانونية واتخاذ إجراءات رادعة لوقف جرائم سلطات الاحتلال"، ودعوة المجتمع الدولي إلى "رفض الأطروحات التي تكرس فصل غزة عن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وللتأكيد أن أي مقاربة مستقبلية لغزة يجب أن تكون في سياق العمل على حل شامل يضمن وحدة غزة والضفة الغربية"، وللمطالبة بعقد "مؤتمر دولي للسلام، في أقرب وقت ممكن، تنطلق من خلاله عملية سلام ذات مصداقية على أساس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام، ضمن إطار زمني محدد وبضمانات دولية".
وعلى الرغم من أن أياً من هذه الدعوات أو التكليفات لم يفض إلى أي نتائج ملموسة، فقد واصلت القمة الثانية السير على هذا النهج العقيم نفسه.
تجدر الإشارة هنا إلى أن قمة الرياض الأولى أكدت عزمها "كسر الحصار على غزة وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع بشكل فوري"، ودعت المنظمات الدولية إلى "المشاركة في هذه العملية وإلى العمل على حماية الطواقم التي ستتولى توزيع المساعدات وتمكينها من القيام بدورها بشكل كامل".
ولأن الالتزام بكسر الحصار المفروض على قطاع غزة وإدخال مساعدات إنسانية كان هو الإجراء العملي الوحيد الذي تضمنه البيان الختامي الصادر عن هذه القمة، فقد تصور البعض أن القمة العربية والإسلامية ستكون قادرة على الوفاء بما التزمت به، وأن الدول المشاركة فيها ستستخدم كل ما في حوزتها من إمكانيات لفرض هذا الإجراء وتحويله إلى أمر واقع، وهو ما لم يحدث. فعندما التأمت القمة العربية والإسلامية في الرياض للمرة الثانية، وبعد عام كامل من القمة الأولى، كانت آلاف الشاحنات ما تزال مكدسة عند معبر رفح من دون أن يسمح لها بالدخول.
ومع ذلك، واصلت هذه القمة استخدام اللغة العاجزة والعقيمة نفسها، إذ صدر بيانها الختامي متضمناً فقرة تنص على "إدانة سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها إسرائيل واستخدام الحصار والتجويع سلاحاً ضد المدنيين في قطاع غزة، ومطالبة المجتمع الدولي باتخاذ خطوات عملية فورية لإنهاء الكارثة الإنسانية التي يسببها العدوان، وبما يشمل إجبار "إسرائيل" على الانسحاب الكامل من قطاع غزة و فتح جميع المعابر بينها وبين القطاع، ورفع كل القيود والعوائق أمام النفاذ الإنساني الآمن والسريع وغير المشروط إلى القطاع، تنفيذاً لالتزاماتها باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال.
وفي السياق نفسه، المطالبة بالانسحاب الفوري لقوات الاحتلال الإسرائيلي من معبر رفح، ومن محور صلاح الدين (فيلادلفي)، وبعودة السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة معبر رفح، واستئناف العمل باتفاق 2005 وبما يسمح بانتظام عمل المنظمات الإغاثية واستئناف تدفق المساعدات بشكل آمن وفعال"!
نشر كاتب هذه السطور، في أعقاب قمة الرياض الأولى، مقالاً حمل عنوان "قمة ليست على مستوى الحدث أو المسؤولية" أشار فيه إلى ما تضمنه البيان الختامي لهذه القمة من تناقضات.
فهو يطالب دول العالم بوقف تصدير الأسلحة والذخائر إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بينما كان الأحرى مطالبة الدول العربية والإسلامية التي تستضيف على أراضيها قواعد عسكرية أميركية بإغلاق هذه القواعد التي تقدم دعماً عسكرياً مباشراً لـ"إسرائيل"، وهو يطالب المجتمع الدولي بممارسة ضغوط دبلوماسية وسياسية وقانونية واتخاذ إجراءات رادعة لوقف جرائم سلطات الاحتلال، بينما كان الأولى مطالبة الدول العربية والإسلامية التي تقيم علاقات دبلوماسية وتجارية وأحياناً أمنية مع "إسرائيل" بقطع هذه العلاقات، أو مطالبة الدول التي تبيع النفط والغاز للدول الداعمة للعدوان أن تمتنع عن تصدير هذه السلع الاستراتيجية والحيوية، اختتمه قائلاً: "لو كانت الدول العربية والإسلامية جادة حقاً في وقف حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة منذ خمسة عشر عاماً، لما انتظرت أكثر من شهر كامل بعد بدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كي تعقد قمتها في الرياض.
وليس هناك من تفسير لهذا التقاعس سوى أن عدداً كبيراً من هذه الدول تعمد منح "إسرائيل" ما تحتاجه من وقت للقضاء على منظمة حماس عسكرياً، وإسقاط حكمها في غزة، وهي الأهداف نفسها التي تسعى "إسرائيل" لتحقيقها.
فبعض الدول العربية يرى في حماس امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي يناصبها العداء، بأكثر مما يرى فيها أحد فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية التي تقاوم الاحتلال الصهيوني، بل ولا يتردد في تحميلها مسؤولية الحرب المشتعلة الآن ويعدّها رداً طبيعياً على عملية "طوفان الأقصى". وهذا طرح شديد الخطورة ويعدّ نوعاً من الانتحار السياسي في حقيقة الأمر". وما يصدق على قمة الرياض الأولى وبيانها الختامي يصدق على قمة الرياض الثانية وبيانها الختامي.
إذا استمرت الدول العربية والإسلامية في عقد قمم من هذا النوع الذي لا طائل من ورائه، فستتحول هذه القمم إلى ما يشبه سرادقات عزاء يقام على أرواح الضحايا الذين يسقطون يومياً في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني حالياً على كل من فلسطين ولبنان، وقد تطال دولاً أخرى غداً. ليس معنى ذلك أنني أطالب بإلغاء هذه القمم، لكنني أطالب بتحويلها إلى قمم حقيقية فاعلة.
فالعالمان العربي والإسلامي يملكان من المقومات ما يتيح لهما عملياً الانتصار على المشروع الصهيوني الذي يشكل تهديداً وجودياً على كليهما، لكنهما يفتقدان لإرادة المواجهة، إما بسبب غياب الوعي لدى بعض الأنظمة الحاكمة أو بسبب ضلوع بعضها الآخر في المؤامرة المستمرة على شعوب هذه المنطقة منذ أكثر من قرن من الزمان.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً