تحية لأسود فلسطين!
ما زال الشعب الفلسطيني قادراً على إدهاشنا، رغم كل ما مر به من محن ونكسات على امتداد تاريخه النضالي الطويل في مواجهة مشروع صهيوني يسعى منذ قرن وربع لإبادته وسرقة وطنه.
ففي يوم 2 أيلول/سبتمبر الماضي، وأثناء تجمع جماهيري أقيم في نابلس لتأبين شهداء سقطوا حديثاً على درب النضال الفلسطيني المتواصل، فوجئ الحضور بشباب في عمر الزهور، يرتدون زياً موحداً أسود اللون، ويحمل كل منهم بندقية تمت تغطية فوهتها بقطعة من قماش أحمر، كرمز يشير إلى أنَّ الرصاص الذي حشيت به تلك البنادق لن يذهب هدراً، وسيتوجه مباشرة إلى صدر الاحتلال الإسرائيلي؛ العدو الوحيد للشعب الفلسطيني.
وبعدما فرغ هؤلاء الشباب من تقديم استعراضهم شبه العسكري، تقدَّم أحدهم لتلاوة بيان يعلن فيه ولادة كتائب "عرين الأسود"، ويؤكّد في الوقت نفسه أنَّ الشهيدين الذين يُحتفى بارتقائهما، وهما محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح، من مؤسسي "العرين"، وأن رفاقهما على الدرب سيواصلون طريق النضال المسلح إلى أن تتحرر فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.
ولأنَ الشهور القليلة التي سبقت هذا الحدث كانت قد شهدت سلسلة من العمليات الاستشهادية النوعية في أماكن متفرقة من الضفة، فقد أدرك الجميع أنَّ ما جرى لم يكن مجرد إعلان رسمي عن ميلاد فصيل فلسطيني جديد يضاف إلى قائمة طويلة من فصائل تكتظ بها الساحة الفلسطينية من دون ضرورة أو فاعلية تذكر، إنما أمام ظاهرة جديدة تستوقف الأنظار، ليس بسبب خطابها السياسي والتعبوي المختلف فحسب، إنما أيضاً بسبب أسلوب عملها غير المعتاد في التصدي للاحتلال، وهو يتسم بجرأة غير مسبوقة، وبالتحدي في الوقت نفسه.
لذا، يعتقد كثير من المراقبين أن الساحة الفلسطينية تشهد محاولة جادة بالفعل لإعادة الروح والفاعلية إلى الحركة الوطنية الفلسطينية التي باتت في أمس الحاجة إلى عملية ترميم شاملة تستهدف إعادة بنائها من جديد.
بعد أيام قليلة من هذه الجلسة التأبينية، وتحديداً في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، قام شاب فلسطيني آخر ينتمي إلى المجموعة نفسها، أي كتائب "عرين الأسود"، بتنفيذ عملية جريئة بمفرده، استهدفت مجموعة من الجنود الإسرائيليين وحراس الأمن الموجودين عند حاجز مدينة شعفاط الواقعة شمال القدس، وتمكَّن بالفعل من قتل مجندة في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، بعدما صوب نحو رأسها رصاصة من نقطة الصفر، وأصاب مجنداً ثانياً بجروح خطرة، ثم مجندين آخرين بجروح أقل خطورة، قبل أن يختفي ويتمكن من الفرار والابتعاد عن الأنظار.
الأهم من ذلك أنَّ هذا الشاب، وبعد 11 يوماً من مطاردة الجنود الإسرائيليين له، قرر القيام بعملية ثانية قرب مستوطنة "معاليم أدوميم" شرق مدينة القدس، عبر الاشتباك المباشر مع القوة الإسرائيلية التي كانت تطارده، واستطاع أن يصيب منها جندياً قبل أن يلقى ربه شهيداً وهو يقاتل ممسكاً بسلاحه وسط الجنود الذين أطبقوا عليه الحصار.
ولأنَّ العالم كلّه تابع هذه الملحمة البطولية صوتاً وصورة عبر فيديو قصير تم بثه في وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كان من الطبيعي أن يتحول هذا الشاب العشريني، واسمه عدي التميمي، إلى أيقونة فلسطينية ملهمة، وخصوصاً بعدما تبين فيما بعد أنه كتب قبل استشهاده وصية قصيرة قال فيها: "أنا المطارد عدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط. العملية التي قمت بها عند هذا الحاجز هي مجرد نقطة في بحر النضال الهادر. أعلم أنني سأستشهد، عاجلاً أم آجلاً، كما أعلم أنني لم أحرر فلسطين بهذه العملية، لكنني قمت بتنفيذها لعلمي يقيناً بأن ثمرتها ستكون إقدام مئات الشباب على حمل البندقية من بعدي".
القليل الذي نُشر عن كتائب "عرين الأسود"، التي يعدّ الشهيد عدي التميمي نموذجاً فذاً لنوعية المنتسبين إليها، يوحي بأن الغالبية العظمى من أعضائها هم على الأرجح من أبناء وأقارب وأتباع قادة وشهداء فلسطينيين قدامى ينتمي أغلبهم إلى كتائب "شهداء الأقصى"، الجناح العسكري لحركة "فتح"، لكنه لا يقتصر عليهم، ويعكس خطابهم السياسي والفكري نبرة وطنية جديدة بعيدة كلّ البعد عن الخطاب الفصائلي المعتاد، فهم يتحدثون بفخر وإكبار عن كل الشهداء الفلسطينيين، أياً كانت انتماءاتهم الفصائلية أو العقائدية، بدءاً بياسر عرفات وانتهاء بأحمد ياسين وأبو على مصطفى وفتحي الشقاقي وغيرهم كثيرين ممن ارتوت أرض فلسطين بدمائهم الغالية، وبالتالي يبثون روحاً جديدة تستهدف تبديد اليأس والتبشير بالنصر.
ولأن بوصلتهم الوحيدة هي فلسطين، التي يصرون على ضرورة تحريرها من البحر إلى النهر، فضلاً عن أن وسيلتهم الوحيدة لتحقيق هذا الهدف النبيل هي البندقية ولا شيء غيرها، فقد كان من الطبيعي أن يرحب بهم الشعب الفلسطيني، أين ما وجد أيما ترحيب، وأن يرى في ظهورهم في ساحة العمل الميداني تطوراً نضالياً جديداً يبعث على الأمل والتفاؤل.
لظهور تنظيم جديد بهذه الحيوية، وفي هذا الوقت بالذات، دلالات كثيرة. نحن، أولاً، أمام جيل فلسطيني جديد يبدو واضحاً أنه فقد ثقته تماماً بأي "عملية سياسية"، وخصوصاً تلك التي تجري تحت سقف "أوسلو".
أهم ما يلفت النظر في هذا الجيل أنه ولد بعد سنوات عديدة من إبرام تلك الاتفاقية التي صُمّمت أصلاً لتفريغ الشعب الفلسطيني من كل طاقاته النضالية وإيهامه بأن الطريق السلمي هو الوسيلة الوحيدة لتمكينه من الحصول على حقوقه المغتصبة، وبالتالي على الرغم من أن هذا الجيل عاش وترعرع في كنف اتفاقية أوسلو اللعينة، فإنه بات يدرك الآن يقيناً أن هذه الاتفاقية تحولت إلى عبء كبير على الشعب الفلسطيني، وأصبحت أداة لتصفية قضيته بدلاً من تمكينه من ممارسة حقوقه، ولو على جزء من أرضه التاريخية.
ونحن، ثانياً، أمام جيل يدرك أنَّ العمل الوطني، وليس الفصائلي أو الأيديولوجي، هو القادر وحده على حشد كل طاقات الشعب وتعبئتها. صحيح أنَّ التعددية السياسية والفكرية مطلوبة في الساحة الفلسطينية، شأنها في ذلك شأن أي ساحة سياسة أخرى، لكن حين يكون الوطن محتلاً ومغتصباً، فمن الطبيعي، بل ومن الحتمي، أن تسبق قضية التحرير كل ما عداها من قضايا، بما في ذلك قضية النظام السياسي والاجتماعي الذي ينبغي أن يسود عقب التحرير.
وبوسع جيل جديد مقاوم على هذا القدر من النضج السياسي أن يؤدي دوراً محورياً في حثّ كلّ الفصائل الفلسطينية المتصارعة على توحيد صفوفها حول برنامج وطني للتحرير، ودفعها إلى العمل على إعادة بناء إطاره التنظيمي الجامع، وهو منظمة التحرير الفلسطينية، على أسس جديدة تسمح بتعددية سياسية حقيقية في إطار وحدة الهدف.
ونحن، ثالثاً، أمام جيل يدرك أنَّ للمقاومة المسلحة أشكالاً عدة ينبغي أن تتكامل، لا أن تتقاطع، لتؤدي ثمارها في نهاية المطاف؛ فإذا كان الوضع في قطاع غزة، المحرر جزئياً من الاحتلال الإسرائيلي (رغم الحصار المفروض عليه)، يتطلب أن تكون المقاومة فيه منظمة وخاضعة لتسلسل قيادي هرمي، أي لسلطة يقع عليها واجب السعى لاقتناء ما تستطيع من أسلحة ثقيلة وخفيفة ووضع الخطط العسكرية التي تناسب أوضاع هذا القطاع المحاصر، فإن الوضع في الضفة الغربية يتطلب ابتكار أشكال جديدة للمقاومة المسلحة، وهذا هو ما تقوم به فعلاً وتحديداً كتائب "عرين الأسود"، التي نجحت في أن تقدم نماذج إنسانية مبهرة.
من الواضح أن عمليات المقاومة النوعية التي اندلعت في الضفة الغربية خلال الشهور القليلة الماضية، سواء قام بها أفراد لا ينتمون إلى أي فصائل أو قامت بتدبيرها فصائل قديمة أو جديدة، تلقى ترحيباً هائلاً من جانب الشعب الفلسطيني، على اختلاف مكوناته وشرائحة السياسية والفكرية والاجتماعية. لذا، لم يكن غريباً أن تدق أجراس الكنائس، وأن تعلو التكبيرات من فوق المنابر والمآذن تحية للشهداء الذين ارتقوا وقدموا أرواحهم، وما زالوا يرتقون ويقدمون أرواحهم كل يوم فداء للوطن.
وإن دلّ هذا التفاعل الإيجابي العميق بين المقاومة المسلحة والشعب الفلسطيني على شيء، فإنما يدل على أنه شعب لم يعد يثق مطلقاً بإمكانية حصوله على الحد الأدنى من حقوقه الوطنية المشروعة عبر وسائل تسوية سياسية استنفدت أغراضها تماماً، أو عبر تنسيق أمني بات يشكل خيانة لقضيته، وبات يدرك يقيناً أنّ "إسرائيل" لن تقبل بأيّ تسوية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، ولو في حدود 1967، إلا إذا اقتنعت تماماً بأن تكلفة الاحتلال والاستيطان وضم الأراضي تتجاوز بكثير تكلفة الانسحاب منها، وهو ما لن يحدث إلا بتفجير وحشد وتعبئة كل الطاقات النضالية للشعب الفلسطيني، أينما وجد.
تحية لأسود فلسطين الذين أثبتوا أنهم ينتمون إلى شعب يملك إرادة عصية على الكسر، ومن ثم تستحيل هزيمته، كما أثبتوا أنهم مصرون على مقاومة نظام الاحتلال الاستيطاني العنصري في فلسطين حتى آخر رمق في حياتهم، ونأمل أن تكون رسالتهم قد وصلت إلى الجميع، سواء للفصائل الفلسطينية التي لم يعد أمامها من سبيل تسلكه سوى سبيل الوحدة والمقاومة بكل أشكالها، أو للسلطة الفلسطينية التي لم يعد أمامها سوى الانصياع لإرادة الشعب الفلسطيني، بقطع كل الاتصالات الأمنية مع "إسرائيل" وتنظيم انتخابات عامة تسمح بتشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد يعبر عن كل مكونات الشعب الفلسطيني، أو للدول العربية التي طبعت علاقتها بـ"إسرائيل"، وبات عليها أن تعترف بأن التطبيع مع نظام فصل عنصري كالنظام الإسرائيلي لا يعد طعنة في ظهر النضال الفلسطيني فحسب، إنما طعنة لمجمل النضال الإنساني الرافض للعنصرية والقهر.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.