خواطر في ذكرى قيام الوحدة بين مصر وسوريا
في مثل هذه الأيام من عام 1958، وتحديداً في يوم 22 شباط/ فبراير من ذلك العام، تم الإعلان رسمياً عن قيام وحدة سياسية اندماجية كاملة بين مصر وسوريا، ما أدى إلى اختفاء هاتين الدولتين من قائمة الدول المستقلة، لتحل محلهما دولة واحدة تحمل اسماً جديداً هو "الجمهورية العربية المتحدة".
لم يكن عمري في ذلك الوقت قد تجاوز 11 عاماً، ومع ذلك فقد تولّد لدي آنذاك شعور دفين بأهمية وخطورة هذا الحدث الكبير، والذي لم يكن لدي في هذه المرحلة المبكرة من حياتي ما يكفي من الوعي لإدراك كل أبعاده ودلالاته.
وحين سقطت دولة الوحدة بعد حوالى 3 سنوات ونصف السنة فقط من قيامها، بسبب انقلاب عسكري قادته حفنة من الضباط السوريين يوم 28 أيلول/سبتمبر1961، كان بمقدوري أن أدرك على نحو أفضل حجم الكارثة أو الانتكاسة التي ألّمت بالعالم العربي في ذلك الوقت. ورغم مرور أكثر من 60 عاماً على هذا الانفصال المشؤوم، ما زلت أتذكّر حتى الآن مرارة تلك النبرة الحزينة التي ميّزت صوت عبد الناصر وهو يلقي في اليوم التالي لوقوع الانفصال خطاباً مؤثراً يشرح فيه ملابسات ما جرى.
والأغرب أن هذا الخطاب أصبح الآن مرتبطاً عضوياً في ذهني بخطاب آخر ألقاه عبد الناصر في أعقاب هزيمة 1967، حين أعلن تحمّله كامل المسؤولية عن تلك الهزيمة وقراره بالتنحي عن أي منصب رسمي، وكأنّ الحدثان قد تحوّلا في عقلي الباطن إلى وجهين لعملة واحدة.
لم يكن قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 حدثاً عابراً في تاريخ الأمة، وكذلك كان حدث الانفصال، فكلاهما هزّ مشاعر الأمة من أقصاها إلى أقصاها، حيث ولّد الحدث الأول شعوراً طاغياً بالفرح والأمل في مستقبل أفضل، بينما ولّد الحدث الثاني شعوراً طاغياً بالحزن واليأس.
وإذا كان قيام وحدة اندماجية بين قطرين عربيين متباعدين جغرافياً قد أثبت بما لا يدع مجالاً لأي شك أن الوحدة العربية هي حلم قابل للتحقق فعلاً على أرض الواقع، وليس مجرد فكرة طوباوية أو سراب خادع. فإنّ وقوع الانفصال بمثل هذه السرعة أثبت في الوقت نفسه أن الطريق إلى هذه الوحدة محفوف بمخاطر كثيرة وتعترضه عقبات وعراقيل ضخمة ينبغي تشخيصها بدقة والعمل على معالجتها والتغلب عليها. كما أثبت في الوقت نفسه أن للوحدة أعداء كثراً في الداخل والخارج ينبغي التحسب دائماً لكل ما يخططون له ويحيكونه في الظلام.
وفي تقديري إن ما جرى للعالم العربي منذ وقوع الانفصال وحتى الآن يثبت أن الوحدة هي الطريق الوحيد لضمان تقدّم الأمة وازدهارها وصيانة أمنها والمحافظة على استقلالها وحريتها، وأن الاستسلام لواقع التجزئة هو أقرب الطرق إلى قاع الهاوية وفقدان الهوية وضياع الأمن والعجز عن صيانة الاستقلال وحفظ الكرامة الوطنية. لذا ينبغي أن نتدبّر ما جرى في ذكرى الوحدة بين مصر وسوريا، وأن نستخلص منه الدروس والعبر.
أوّل هذه الدروس: أن الوحدة لا تعني بالضرورة فقدان الدول الراغبة فيها لهوياتها وخصوصياتها الوطنية.
صحيح أن بعض العروبيين من أنصار الفكر القومي التقليدي كانوا يروّجون لمقولة أن الدولة "القطرية" تشكّل عقبة في طريق الوحدة، ومن ثم ينبغي هدمها وبناء دولة الوحدة على أنقاضها، غير أن الفشل السريع لتجربة الوحدة بين مصر وسوريا فرض على الأجيال اللاحقة من القوميين العرب ضرورة مراجعة هذه الأفكار، خصوصاً بعد أن تبيّن أن الانتقال المفاجئ من وضع "الدولة القطرية" إلى وضع "الدولة الاندماجية الموحّدة" يثير إشكاليات عديدة ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار، وإلا تعرّضت دولة الوحدة لضغوط قد تؤدي إلى انفجارها من داخلها.
فلكل شعب عربي، رغم عمق الصلات الثقافية والتاريخية التي تربطه ببقية الشعوب العربية، هوية خاصة مستمدة من تاريخه ومن تركيبته الاجتماعية والإثنية، ومن ثم ينبغي العمل على احترامها والحفاظ عليها طالما أنها لا تعيق تحقيق الغايات والأهداف العليا التي تنشدها دولة الوحدة، وهو ما فشل نهج الوحدة الاندماجية في تحقيقه إبان تجربة الوحدة بين مصر وسوريا.
ولأن التركيبة الاجتماعية للشعب السوري تعد أكثر تنوّعاً من التركيبة الاجتماعية للشعب المصري الأكثر تجانساً، فقد كان من الطبيعي أن يشعر الشعب السوري أن المركزية الشديدة التي اتسمت بها مؤسسات "الجمهورية العربية المتحدة" لا تناسبه ولا تسمح له بمشاركة فاعلة في صنع القرار. بعبارة أخرى يمكن القول إن الوحدة العربية المنشودة لا تبنى على أنقاض الدول القائمة، وإنما من خلالها، وينبغي أن تعبّر عن الإرادة الحرّة للشعوب، وليس عن إرادة فرد أو طائفة أو مجموعة بعينها.
ثاني هذه الدروس: أن بناء الدول الوطنية في العالم العربي على أسس ديمقراطية، يعد شرطاً ضرورياً لإقامة وحدة عربية مستدامة.
فالشعب السوري هو الذي أخذ زمام المبادرة في طرح موضوع الوحدة مع مصر، وكان له الفضل الأكبر في إنجازها بل وفرضها.
ويعود السبب الأساسي، وربما الوحيد، في إقدام الشعب السوري على هذه الخطوة الجبّارة، إلى وجود زعيم عروبي على رأس الدولة المصرية، ممثّلاً في شخص جمال عبد الناصر، لكن ذلك لم يكن شرطاً كافياً لضمان نجاح تجربة الوحدة واستمرارها. فالانفصال تمّ أيضاً في عهد جمال عبد الناصر، وهو الزعيم الذي حملت جماهير الشعب السوري سيارته على الأعناق. بل ووجد الانفصال دعماً لدى قطاعات مختلفة من النخبة السورية، بما في ذلك شكري القوتلي نفسه، خاصة تلك التي كانت قد تضرّرت من قوانين اقتصادية واجتماعية صدرت في عهد الوحدة من دون تشاور مسبّق أو كاف مع الممثلين الحقيقيين للشعب السوري.
تجدر الإشارة هنا إلى أن حماس الشعب السوري للوحدة مع مصر كان في الحقيقة مدفوعاً بتأييد غير مشروط لمشروع عبد الناصر الوطني والقومي وليس بالضرورة لنظام عبد الناصر السياسي، والفرق كبير جداً بين الاثنين. فمشروع عبد الناصر، والذي جسّدته مواقف ثورية مناهضة للمشروع الصهيوني ولقوى الاستعمار والرجعية ومعارضة لحلف بغداد ومتحدية للغرب، هو الذي ألهب خيال الشعب السوري وأقنعه بأن عبد الناصر يصلح زعيماً للأمة العربية كلها وليس لمصر وحدها. أما نظامه السياسي، والذي جسّدته سيطرة الحزب الواحد وسطوة أجهزة الأمن، فقد جعل قطاعات عريضة من الشعب السوري تشعر أنها مهمّشة ومستبعدة من عملية صنع القرار.
لذا يمكن القول، من دون تجاوز، إن مشروع عبد الناصر الوطني والقومي ساهم في إقامة الوحدة بين مصر وسوريا، أما نظامه السياسي فقد تسبّب في هدم هذه الوحدة وفي وقوع الانفصال الذي كان مقدّمة لسلسلة من الكوارث التي ألمّت بالعالم العربي، في مقدّمتها هزيمة 67.
ليس معنى هذا تبرئة قادة الانقلاب العسكري أو قوى الخارج المتآمرة على الوحدة، من جريمة الانفصال، لكنني أعتقد أنه ما كان لكل هذه الأطراف أن تنجح في فصم عرى الوحدة لولا الأخطاء التي ارتكبتها أجهزة عبد الناصر ودولته العميقة.
ولأنّ إرادة الله شاءت أن يرحل عبد الناصر بعد 9 سنوات بالضبط من وقوع جريمة الانفصال، فقد أصبح من السهل على القوى المتربّصة بالوحدة والكامنة في قلب نظامه أن تنجح في تصفية مشروعه القومي.
ثالث هذه الدروس: أن وحدة الهدف يحب أن تسبق وحدة الصف.
فالعالم العربي يواجه تحديات خارجية ضخمة، أشدّها خطراً المشروع الصهيوني الذي يسعى لتفكيكه وتكريس واقع التجزئة. وما لم تتمكّن الدول العربية من توحيد موقفها في مواجهة أخطار هذا المشروع، فلن يكون بمقدورها التحرّك على الطريق المؤدي إلى وحدة الصف. وفي تقديري إن غياب استراتيجية عربية موحّدة لمواجهة المشروع الصهيوني، ودخول الدول العربية تباعاً في عمليات تسوية سياسية منفردة مع "إسرائيل"، كان ولا يزال من بين أهم الأسباب التي أدت إلى إفشال معظم تجارب الوحدة العربية، ومنها تجربة الوحدة بين مصر وسوريا.
وسوف يستحيل الدخول في أي تجربة عربية وحدوية جادة في المستقبل ما لم تتمكّن الدول العربية أولاً من تبنّي استراتيجية موحّدة لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي، سلماً أو حرباً، ما يلقي على عاتق الفصائل الفلسطينية المتصارعة حالياً مسؤولية خاصة في هذا الصدد. فأيّ حديث عن وحدة الصف العربي لا معنى له في ظل استمرار الانقسام الفلسطيني الراهن، وكذلك في ظل انشطار الدول العربية إلى قسمين: أحدهما يقيم علاقات طبيعية مع "إسرائيل"، والآخر رافض لهذا التطبيع.
لذا يمكن القول إن استعادة الحد الأدنى من التضامن العربي، في ظل هذا الوضع، بات مشروطاً بقدرة الفصائل الفلسطينية على إنهاء الانقسام والاتفاق على استراتيجية وطنية موحّدة لإدارة الصراع مع "إسرائيل"، لأن ذلك من شأنه نزع الذرائع التي تتعلل بها الأنظمة العربية لتبرير اندفاعها نحو التطبيع مع "إسرائيل"، وربما يساعد الشعوب العربية في الوقت نفسه على ممارسة ضغوط أكبر على هذه الأنظمة لوقف هذا الاندفاع، على الأقل من خلال ربط التطبيع بتحقّق الحد الأدنى من المطالب العربية والفلسطينية، ممثّلاً في قيام دولة فلسطينية موحّدة عاصمتها القدس الشرقية على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين.
بعبارة أخرى يمكن القول إن وقف التطبيع مع "إسرائيل" يمكن أن يشكّل خطوة أساسية نحو تمكين النظام العربي من استعادة تماسكه تمهيداً للشروع في اتخاذ خطوات جادة ومدروسة لتوحيد الصف.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.