هل تفتح الصين باب تسوية الأزمة الأوكرانية المستعصية؟
انتظرت الصين عاماً كاملاً قبل أن تقرر طرح مبادرة تستهدف وقف الحرب المشتعلة على الساحة الأوكرانية، وحثّ أطرافها على الدخول في مفاوضات مباشرة للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع الذي تسبب في إشعالها. ففي يوم 24 شباط/فبراير الماضي، نشرت وزارة الخارجية الصينية وثيقة تضمنت 12 بنداً تحدد رؤية الحكومة الصينية للمبادئ العامة التي يجب أن تقوم عليها التسوية، الأمر الذي أثار، وما يزال يثير، نقاشاً حاداً حول دوافع المبادرة الصينية، ودلالات توقيتها، وفرص نجاحها، بل وراح البعض يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الصين، التي يرى فيها الغرب حليفاً استراتيجياً لروسيا، تصلح أصلا للقيام بدور الوسيط في أزمة تتعلق بتغيير قواعد النظام الدولي، ويجمع المراقبون على أنها تعدّ الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تتسبب في اندلاع حرب عالمية ثالثة، ليس من المستبعد أن تستخدم فيها الأسلحة النووية.
تدرك الصين يقيناً أن إدارة بايدن لا تثق بها كثيراً. فهي تشكل مع روسيا، حسب ما تنص عليه صراحة وبوضوح تام استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي نشرت في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، أكبر تحديين للولايات المتحدة الأميركية. صحيح أن الاستراتيجية الأميركية تعترف بوجود قواسم مشتركة بين روسيا والصين "المحكومتين بنظامين استبداديين تسعيان لتغيير قواعد النظام الدولي بما يتناسب مع مصالحهما الخاصة، وتنحازان بشكل متزايد إلى بعضهما البعض"، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أنهما تطرحان تحديات من طبيعة مختلفة تفرض اختلاف الأساليب التي يجب أن تعتمد في مواجهة كل منهما.
الصين، من منظور إدارة بايدن، هي دولة "منافسة" تمتلك من وسائل القوة ما يؤهلها للتطلع نحو صدارة النظام الدولي، والعمل على إزاحة الولايات المتحدة من موقعها المهيمن، ما يتطلب في مواجهتها تبني استراتيجية تقوم على امتلاك ميزة تنافسية خاصة، أما روسيا فهي دولة "معادية" جرؤت على استخدام القوة المسلحة ضد دولة حليفة، ومن ثم أصبحت تشكل تهديداً مباشراً يجب العمل على مواجهته بإلحاق الهزيمة بها. وفي سياق كهذا، من الطبيعي أن تتعامل إدارة بايدن بحذر شديد مع المبادرة الصينية التي عدّتها على الفور منحازة إلى المصالح الروسية على حساب مصالح جميع الأطراف الأخرى.
لكن الفحص الدقيق يؤكد حرص الصين الشديد على أن تأتي مبادرتها متوازنة قدر الإمكان، بحيث يمكن لكل الأطراف المعنية أن تعثر فيها على بعض ما تبحث عنه. فهي تنص في بندها الأول على: "ضرورة احترام سيادة الدول والتعامل مع جميع الدول، بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو ثروتها، باعتبارها دولاً متساوية، ما يفرض ضرورة تطبيق القانون الدولي بشكل موحّد، والتخلي عن المعايير المزدوجة".
ومن الواضح أن هذا البند قصد به طمأنة أوكرانيا إلى أن التسوية المنشودة يجب أن تكون متسقة مع قواعد القانون الدولي الذي يقضي بعدم جواز ضم أراضي الغير بالقوة المسلحة. أما في بندها الثاني فتنص على " ضرورة رفض فكرة ضمان أمن دولة ما على حساب أمن دول أخرى، أو ضمان أمن إقليم ما من خلال تعزيز الكتل العسكرية وتوسيعها، ومن ثم يجب احترام المصالح المشروعة والهواجس الأمنية لجميع البلدان ومعالجتها بشكل مناسب". ومن الواضح أن هذا البند قصد به طمأنة روسيا إلى أن التسوية المنشودة يجب أن تستجيب لمطالبها المتعلقة بالحصول على ضمانات أمنية تلزم حلف الأطلسي بالتوقف عن التوسع شرقاً، وبالعمل على بلورة صيغة للأمن الأوروبي ترضي جميع الأطراف، بما فيها روسيا.
وتحتوي بقية بنود المبادرة على جوانب إجرائية عديدة تتعلق بضرورة وقف القتال (البند الثالث)، وإطلاق مفاوضات سلام (البند الرابع)، ومعالجة الأزمة الإنسانية بطريقة تضمن حماية المدنيين والأسرى (البندان الخامس والسادس)، والحفاظ على سلامة المنشآت النووية مع الالتزام في الوقت نفسه بمبدأ عدم جواز استخدام الأسلحة النووية في الصراع (البندان السابع والثامن)، وضمان تصدير الحبوب إلى مختلف دول العالم (البند التاسع)، و الامتناع عن فرض عقوبات أحادية الجانب مع ضمان استقرار سلاسل الصناعة والإمداد في الوقت نفسه، وكذلك عدم تسييس النظام الاقتصادي العالمي واستخدامه كأداة وسلاح (البندان العاشر والحادي عشر).
كما حرصت المبادرة الصينية في بندها الأخير على التذكير بأهمية إعادة الإعمار بعد انتهاء النزاع وضرورتها، وعلى التشديد في الوقت نفسه على "استعداد الصين للقيام بدور بنّاء في إعادة إعمار منطقة الصراع فور توقف النزاع" (البند الثاني عشر)
لفهم الدوافع الصينية من وراء تقديم هذه المبادرة، علينا أن نتذكر حقيقة أساسية وهي أن روسيا، التي تجمعها بالصين علاقات ودية تصل إلى حد التعاون الاستراتيجي الكامل، لم تتشاور مع الصين حين قررت استخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا. ولأن الصين تحرص دائماً على أن تؤكد أنها أشد الدول رفضاً لاستخدام القوة في تسوية الصراعات الدولية، فقد كان من الطبيعي أن تنأى بنفسها بعيداً عن تأييد استخدام القوة العسكرية في مواجهة أوكرانيا، رغم تفهمها للدوافع التي حدت بروسيا للإقدام على هذه الخطوة، وهو ما يفسر امتناعها عن التصويت على القرارات التي أدانت روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة وطالبتها بالانسحاب الفوري من الأراضي الأوكرانية، مع رفضها في الوقت نفسه للعقوبات الشاملة التي قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها فرضها على روسيا بمجرد اندلاع الحرب.
صحيح أن الصين استفادت اقتصادياً من هذه العقوبات، التي مكّنتها من الحصول على النفط والغاز الروسيين بأسعار تفضيلية أو مخفضة، لكن موقفها الرافض للعقوبات استند في الوقت نفسه إلى اعتبارات مبدئية، تتعلق بفرض هذه العقوبات خارج نطاق الشرعية الدولية. ولا شك في أن الموقف الصيني ساعد روسيا كثيراً على تحمل الأعباء الناجمة عن هذه العقوبات ومكّنها من الاستمرار في تمويل الحرب، الأمر الذي عدّته الولايات المتحدة موقفاً أقرب إلى الانحياز لروسيا منه إلى الحياد، وهو ما يفسر بدوره إقدام الولايات المتحدة على تحذير الصين بشكل متكرر من العواقب التي يمكن أن تترتب على دعمها لروسيا، خاصة إذا قررت مدّها بالذخيرة والأسلحة التي تحتاجها لمواصلة الحرب، الأمر الذي قد يترتب عليه تغيير كبير في موازين القوى المشتبكة في الميدان.
لا أعتقد أن الصين تعلق آمالاً كبيرة على احتمال قبول الولايات المتحدة وحلفائها لمبادرتها الخاصة بالتسوية السلمية للأزمة الأوكرانية، وذلك لأسباب متنوعة. فالولايات المتحدة تدرك جيداً أن دخول هذه المبادرة حيّز التنفيذ قد يؤدي في النهاية إلى عواقب وخيمة بالنسبة إلى حلف "الناتو"، أقلّها وقف تمدّده شرقاً، خاصة إذا ما وافقت روسيا في المقابل على انسحاب كلي أو جزئي من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها في الحرب الحالية، وهو ما لا يمكن أن تسلم به، خاصة وأنه قد يؤدي إلى بداية تفكك حلف "الناتو" وربما انهياره في نهاية المطاف. معنى ذلك أن للولايات المتحدة مصلحة واضحة في استمرار الأزمة الأوكرانية وفي الإبقاء على جذوة الحرب مشتعلة، وهو ما يفسر إصرارها على إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، ومن ثم يتوقع أن تسعى بكل الوسائل الممكنة لإجهاض المبادرة الصينية والالتفاف عليها.
لكن، مجرد إقدام الصين على طرح مبادرة لإنهاء الحرب في أوكرانيا يتيح أمامها فرصة لتحقيق هدفين تعلق عليهما أهمية كبيرة، الأول: الظهور على الساحة الدولية بمظهر الدولة الحريصة على السلام العالمي والساعية فعلياً من أجل تحقيقه، والثاني: تحميل الولايات المتحدة التبعات المترتبة على إجهاض مبادرتها السلمية، بما في ذلك تبرير أي تغير قد يطرأ على موقفها إذا ما قررت تقديم دعم أكبر لروسيا، ومدّها بالأسلحة التي تحتاجها لحسم الحرب. وفي هذه الحالة، ستصبح روسيا هي المستفيد الأكبر من إقدام الصين على تقديم المبادرة، لأنها ستؤكد التعنت الأميركي وستظهرها بمظهر القوة العالمية التي تخوض حرباً وجودية فرضت عليها من جانب الدول الغربية التي تصر على محاصرتها، والعمل على تفكيكها مثلما تفكك الاتحاد السوفياتي من قبل.
ربما يكون من المفيد هنا أن نتذكر أن تركيا حاولت القيام بدور الوسيط في الأزمة الأوكرانية، ونجحت بالفعل في جمع روسيا وأوكرانيا حول مائدة المفاوضات، وفي التوصل إلى اتفاق يضمن استمرار تدفق صادرات الحبوب الروسية والأوكرانية إلى مختلف دول العالم. لكن تركيا لا تستطيع أن تذهب بعيداً في مجال البحث عن تسوية شاملة للصراع في أوكرانيا، خاصة وأنها مقيّدة في النهاية بارتباطاتها تجاه حلف "الناتو" الذي ما تزال تحتفظ بعضويته وتحرص عليها، فضلاً عن انشغالها حالياً بالأزمة الداخلية الناجمة عن الزلزال المدمر الذي ضربها مؤخراً.
ولأن تركيا لا تملك على الساحة الدولية الثقل نفسه، يمكن القول إن الصين تكاد تكون هي الدولة الوحيدة في العالم التي تملك من الوسائل ما يسمح لها بممارسة ضغوط حقيقية على مختلف الأطراف؛ للتوصل إلى تسوية لصراع على هذا القدر من الخطورة. وفي تقديري، أن فشل المبادرة الصينية لوقف الحرب لن يكون له سوى معنى واحد وهو اتجاه الأزمة نحو مزيد من التصعيد، الذي قد يتطور إلى حد اللجوء الفعلي إلى استخدام السلاح النووي، وهو ما ينبغي لكل حكماء العالم أن يعملوا بكل إخلاص وتجرد على تجنّبه.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.