خواطر بمناسبة ذكرى "اتفاق أوسلو"
الاشراق | متابعة.
تردّد مؤخّراً أنّ الولايات المتحدة و"إسرائيل" تكثّفان اتصالاتهما حالياً بالسلطة الفلسطينية من أجل إقناعها بمباركة صفقة تعكف واشنطن على وضع اللمسات الأخيرة عليها، من أجل التوصّل إلى اتفاقية لتطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والسعودية.
في مثل هذا اليوم منذ 30 عاماً، وتحديداً في يوم 13 أيلول/سبتمبر من عام 1993، وقّع كلّ من ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وشيمون بيريز، وزير خارجية "إسرائيل"، على "إعلان المبادئ الخاص بترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي"، والذي عُرف آنذاك باسم "اتفاق أوسلو"، نسبة إلى العاصمة النرويجية التي استضافت المفاوضات السرية التي أدت إليه.
تمّ التوقيع على هذا الاتفاق في البيت الأبيض، وفي حفل شهده كلّ من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين.
أذكر أنني أصبت بخيبة أمل شديدة، وصلت إلى حد الشعور بالصدمة، بعد أن فرغت من قراءة نصوص هذا "الإعلان"، وأنني أمسكت بالقلم على الفور ورحت أخط ملاحظاتي عليه، والتي دارت في مجملها حول فكرة مركزية مفادها أنّ أيّ اتفاق لا يلزم الحكومة الإسرائيلية بوقف الاستيطان على الفور، هو بالضرورة اتفاق سيّئ ومراوغ، لأنه ينطوي على ثغرة خطيرة يمكن للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن تستغلّها للمماطلة وكسب الوقت، إلى أن تتمكّن من فرض أمر واقع تستحيل في ظله إقامة دولة فلسطينية، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى تمكين "إسرائيل" من تصفية القضية الفلسطينية نهائياً.
حين فرغت من تدوين ملاحظاتي، دفعت بها على الفور إلى صحيفة "الأهرام"، راجياً نشرها، وفي اليوم التالي، اتصل بي مسؤول صفحة الرأي في هذه الصحيفة المصرية العريقة، وأظن أنه كان الصحافي المخضرم رجب البنا، إذا لم تخنّي الذاكرة، وقال لي مداعباً ما معناه: "العالم كله يحتفل بما يراه إنجازاً تاريخياً، وأنت تريد إطفاء كل المصابيح المضاءة (بالعامية المصرية: عايز تضرب كرسي في الكلوب)!!"، لكنه طمأنني في نهاية حديثه أن المقال سينشر ولكن بعد أن تخفّ حدة الضجيج المنبعث من هذه "الزفة"، وهو ما تمّ بالفعل خلال أيام قليلة.
وهنا يجب أن نعترف بأن هامش الحرية المتاح في الإعلام المصري، بما في ذلك الصحف المملوكة للدولة، كان في ذلك الوقت أعلى بكثير مما هو عليه الآن. ولأنّ خلو "اتفاق أوسلو" من نص واضح يلزم "إسرائيل" بوقف الاستيطان لم يكن هو نقطة الضعف الوحيدة في هذا الاتفاق، فربما يكون من المفيد هنا تذكير الشباب العربي الذي لم يعاصر هذا الحدث بحقيقة الأسباب الذي جعلتنا نرى فيه كارثة كبرى ألمّت بالقضية الفلسطينية.
فقد اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية، بموجب اتفاق أوسلو بـ "حق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن"، وألزمت نفسها بإلقاء السلاح واللجوء إلى المفاوضات وحدها كوسيلة للتوصّل إلى حلول لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة، ما يعني تخلّيها عن استخدام كل أشكال العنف أو المقاومة المسلحة، كما ألزمت نفسها بتعديل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني بما يتماشى مع هذا التوجّه الاستراتيجي الجديد، وتعّهدت في الوقت نفسه بالعمل على إلزام جميع المنتمين إليها بالسير على هذا المنوال، بل وتعقّب ومعاقبة كل من يخرج عليه.
في مقابل ذلك تعترف الحكومة الإسرائيلية بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثّلاً للشعب الفلسطيني، وتبدأ في التفاوض معها حول جميع القضايا المتعلقة بالتسوية النهائية، لكن شتان ما بين الاعترافين.
فالاعتراف الفلسطيني هو اعتراف بدولة، أيّ بحق كيان مغتصب للأرض الفلسطينية بقوة السلاح في الوجود كدولة مستقلة على الأراضي التي تمّ اغتصابها قبل حرب 67، أي على 78% من أراضي فلسطين التاريخية.
أما الاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية فهو اعتراف بالصفة التمثيلية لكيان سياسي، ومن ثم فليس له أي قيمة قانونية على الإطلاق حين يتعلق الأمر بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وفي مقدّمتها حقه في تقرير مصيره.
بل يمكن القول إن مجرد قبول منظمة التحرير الفلسطينية بالتفاوض على القضايا الأساسية التي تهم الشعب الفلسطيني، ومنها قضايا الأرض والحدود، يعني ضمناً الاعتراف بأن الأرض الفلسطينية التي تحتلها "إسرائيل" هي أرض "متنازع عليها" وليست أرضاً محتلة.
فإذا أضفنا إلى ما سبق أن منظمة التحرير الفلسطينية، وبمجرد توقيعها على اتفاق أوسلو، قبلت أن تتخلّى عن صفتها كحركة "تحرّر وطني" وأن تتحوّل بمحض إرادتها إلى "سلطة إدارة" للمناطق التي تقبل "إسرائيل" أن تنسحب منها بإرادتها الحرة، لتبيّن لنا حجم الكارثة التي لحقت بالنضال الفلسطيني الذي لم ينقطع طوال ما يقرب من قرن من الزمان.
ولأنه لا يوجد في اتفاق أوسلو ما يلزم "إسرائيل" صراحة بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة في حرب 67، ناهيك عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على هذه الأراضي، فقد كان من المتوقّع أن تتعمّد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة المماطلة في الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي تحويل السلطة الفلسطينية الى حكومة إدارة محلية تعمل لحساب وتحت إشراف ورقابة الاحتلال الإسرائيلي.
الأخطر من ذلك كله أن السلطة الفلسطينية التزمت بموجب "اتفاق أوسلو" بالتعاون الأمني مع الاحتلال، ما يعني التزامها ليس بإلقاء السلاح والتخلّي عن المقاومة المسلحة فحسب، وإنما أيضاً بتعقّب ومحاربة كل من يحمل السلاح في وجه الاحتلال الإسرائيلي. وهنا تتجلّى قمة المأساة.
لم يتضمّن "اتفاق أوسلو" حلاً نهائياً لأي قضية جوهرية تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، وإنما أجّلت كل القضايا الرئيسية، وفي مقدمتها قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات، والترتيبات الأمنية والحدود وعلاقات التعاون مع الجيران، إلى مفاوضات لاحقة كان بمقدور "إسرائيل" أن تتعلل بأي شيء لتأجيلها إلى ما لا نهاية.
صحيح أنه كان يفترض لهذه المفاوضات أن تبدأ في موعد أقصاه نهاية السنة الثالثة من التوقيع على اتفاق أوسلو، وأن تنتهي بنهاية المرحلة الانتقالية التي كان يفترض ألا تتجاوز خمس سنوات، لكن موازين القوى على الأرض، والتي أصبحت مختلة تماماً لصالح "إسرائيل" عقب التوقيع على اتفاق أوسلو، سمحت للأخيرة بتأبيد حالة الاحتلال.
فاليوم، وبعد مرور 30 عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو، لا تزال الضفة الغربية محتلة، ولا تزال الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي أكثر الحكومات تطرّفاً وعنصرية في تاريخ "إسرائيل"، تصرّ ليس على مواصلة احتلالها فحسب، وإنما على ضمّ معظمها إلى "دولة إسرائيل"، وفي الوقت نفسه تواصل حصارها التام لقطاع غزة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن "اتفاق أوسلو" وُوجِهَ بمقاومة داخلية شديدة على الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي معاً. فعلى الصعيد الفلسطيني، وُوجِه الاتفاق برفض مطلق من جانب حركات حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وجبهة التحرير الفلسطينية، كما وُوجِه بانتقادات لاذعة من جانب شخصيات فلسطينية وازنة، من أمثال المفكّر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد، وأيضاً من جانب قيادات هامة من داخل حركة فتح نفسها، من أمثال فاروق قدومي وشفيق الحوت وغيرهم.
أما على الصعيد الإسرائيلي، فقد رفضته كل الأحزاب والحركات اليمينية، والتي كانت تشكّل أقلية داخل الكنيست الإسرائيلي في ذلك الوقت، ما جعله يمرّ بصعوبة بالغة داخل الكنيست الإسرائيلي، وبأغلبية لم تتجاوز 61 صوتاً فقط، بينما عارضه 50 آخرون وامتنع 8 نواب عن التصويت. بل يمكن القول إن المعارضة الحادة لاتفاق أوسلو في "إسرائيل" هي التي مهّدت الطريق أمام اغتيال كل من إسحق رابين وياسر عرفات، وأيضا أمام صعود اليمين وانهيار اليسار في "إسرائيل".
ومن المعروف أن ياسر عرفات كان قد تمسّك حتى آخر لحظة من حياته بعدم التفريط في القدس بالذات، ودفع حياته ثمناً لهذا الموقف.
لا أظن أنني بحاجة إلى التذكير هنا بحقيقة أساسية، وهي أن اتفاق أوسلو ألحق بالفعل أضراراً فادحة بالنضال الفلسطيني، وعمّق الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية إلى درجة جعلت من احتمالات تحقيق المصالحة بينها أمراً يكاد يكون مستحيلاً.
فمن الواضح أن هذا الاتفاق خلق جماعات فلسطينية ارتبطت مصالحها عضوياً وتدريجياً بسلطة الاحتلال، ثم راحت هذه المصالح تتنامى باطراد إلى أن وصلت الحالة الفلسطينية إلى ما هي عليه اليوم من سوء.
صحيح أن نضال الشعب الفلسطيني لم يتوقّف أبداً في أي لحظة، وصحيح أيضاً أن هذا النضال استفاد كثيراً من صمود محور المقاومة على مستوى المنطقة ككل، خاصة بعد الإنجازات المبهرة التي حقّقها حزب الله في عام 2000 ثم في عام 2006، غير أن السلطة الفلسطينية المدعومة من معظم الأنظمة العربية المتخاذلة لا تزال قادرة على وضع العراقيل أمام تنمية هذا النضال وتعظيم طاقاته، وبالتالي لا تزال مستعدة لتقديم تنازلات لصالح "إسرائيل" وعلى حساب مصالح الشعب الفلسطيني من أجل إنقاذ مصالحها الخاصة.
فقد تردّد مؤخّراً أنّ الولايات المتحدة و"إسرائيل" تكثّفان اتصالاتهما حالياً بالسلطة الفلسطينية من أجل إقناعها بمباركة صفقة تعكف الولايات المتحدة على وضع اللمسات الأخيرة عليها، من أجل التوصّل إلى اتفاقية لتطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية، وذلك مقابل بعض المكاسب الاقتصادية التافهة.
ولأن التحاق السعودية بركب الاتفاقيات الإبراهيمية سيكون أخطر تطوّر يمكن أن تشهده المنطقة منذ توقيع مصر "الساداتية" على اتفاقية سلام منفصلة مع "إسرائيل" عام 1979، فسوف يكون لهذا الحدث، إن تمّ، وقع الزلزال الذي سيهزّ المنطقة برمتها.
لذا يمكن القول إن اتفاق أوسلو لا يزال حياً بعد 30 عاماً من إبرامه، وإنه لا يزال يلقي بتداعياته السلبية على المنطقة بأسرها، ويحوّل السلطة الفلسطينية إلى عبء على نضال شعبها المتواصل منذ ما يقرب من قرن كامل من الزمان.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة