بومبيو.. الرادار المعطوب
اغلب الاسرار الاستخباراتية التي يتم رفع السرية عنها في اميركا ، بعد مرور سنوات طويلة عليها ، تؤكد على حقيقة واحدة ، وهي ان الكذب والخداع هما ديدن السياسة الاميركية ، التي الحقت الآلام والمآسي بشعوب العالم، بهدف اشباع جشع وطمع الراسمالية الاميركية.
رغم ان الكذب كان ومازال هو العنوان الابرز للسياسة الخارجية الاميركية ، بشهادة اطنان من الاسرار الاميركية، ومئات بل الاف المذكرات التي كتبها الساسة الاميركيون، الا ان هذا الكذب لم يظهر بهذا المظهر العاري في تاريخ اميركا كما يظهر اليوم بفضل ادارة الرئيس دونالد ترامب، وشخص وزير خارجيته مايك بومبيو، الذي بات مادة للتندر حتى من قبل الاميركيين انفسهم.
بومبيو وخلافا لوزراء خارجية اميركا السابقين، لا يصطنع الكذب كأسلافه بطريقة تاخذ في الاعتبار عقول الاخرين، من خلال دعم "الكذبة" بمسحة استخباراتية، او عدم الاستعجال في اطلاق الكذبة، والتريت للايحاء ، في حال اطلاق الكذبة ، بانه استمدها من معلومات امدته بها الاجهزة الاستخبارية ، فبومبيو يكذب هكذا دون ان يطلب معلومة من اجهزة الاستخبارات ، بل كثيرا ما يتناقض كذبه مع المعلومات الصريحة التي تنقلها وكالة الاستخبارات الاميركية، كما حدث في جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
آخر كذبة لبومبيو، كانت تصريحاته حول الهجوم الذي نفذته القوات المسلحة اليمنية، بعشر طائرات مسيرة، على مصافي شركة ارامكو شرقي السعودية، ففي الوقت الذي مازالت السنة النيران تصعد الى عنان السماء، إتهم بومبيو ايران بانها تقف وراء الهجوم.
بومبيو ، ومن دون ان ينتظر تقارير وكالة الاستخبارات الاميركية، ولا تقارير وزارة الدفاع ، أعلن ساعة سماعه خبر الهجوم ، انه ليس هناك من دليل يؤكد ان الطائرات كانت قادمة من اليمن! ، وان الطائرات قد تكون قد جاءت من ايران او العراق!!، او ان الهجوم قد نفذ بصواريخ مجنحة!!.
لما كانت كذبة بومبيو اكبر من ان تُهضم، شكك فيها حتى رئيس لجنة المخابرات في مجلس النواب الاميركي آدم شيف، بقوله انه لم يتم إطلاعه بعد فيما اذا كان الهجوم نُسب مباشرة الى ايران، الامر الذي يكشف عن تدنى مصداقية وزارة الخارجية الاميركية الى الحضيض حتى لدى النخب السياسية الاميركية.
لو كان بومبيو صادقا فيما ذهب اليه ، لدعم اقوله بالوثائق والصور، لاسيما ان السعودية والمنطقة متخمة بالقواعد العسكرية وحاملات الطائرات والرادارات والاقمار الصناعية الاميركية، بالاضافة الى القواعد العسكرية والرادارات وانظمة الدفاع الجوي التي يديرها خبراء ومهندسون اميركيون داخل السعودية، والتي تحرس شريان حياة السعودية .. "آرامكو".
قيل الكثير عن الاسباب التي دفعت بومبيو، ليطلق هذه الكذبة الكبيرة، فهناك من راى فيها محاولة لحفظ ماء وجه اميركا وصناعتها العسكرية، الذي اُريق على يد حركة انصارالله، والتي طالما استصغرتها اميركا والسعودية والامارات، وهناك من راى انها محاولة لعملية حلب جديدة للخزينة السعودية، عبر التلويح بـ"الخطر الايراني" ، بينما راى آخرون انها محاولة اميركية لتوتير الاوضاع والايحاء للاخرين بان اميركا ذاهبة للحرب مع ايران، من اجل استجداء الوساطات الدولية، لدفع ايران للتفاوض مع ترامب، الغارق في الورطة التي صنعها هو لنفسه بالانسحاب من الاتفاق النووي.
بومبيو، رادار ترامب المعطوب، لم يفصح ، بغض النظر عن المبررات التي تقف وراء اتهامه ايران، عن الخطوة التالية التي يجب ان تخطوها اميركا بعد هذا الاتهام، فهل ستقوم كما طلب توأم جون بولتون الروحي ليندسي غراهام ومستشارة البيت الابيض كيليان كونواي بقصف مصفاة ايرانية، في الوقت الذي عجزت فيه اميركا عن ستر عورتها التي كشفت عنها عشر طائرات مسيرة يمنية؟، ام سيبتلع بومبيو وسيده ترامب الاهانة التي وجهها ابطال اليمن الى هيبة وسمعة ومكانة اميركا على الصعيد العالمي ، وهيبة وسمعة ومكانة السعودية على الصعيد الاقليمي، لانشغالهما في سرقة حصة السعودية في السوق النفطية والتي تصل الى 6 ملايين برميل يوميا؟.
على القيادة السعودية، ان تكف عن النظر الى الشعب اليمني بذات النظرة الاستعلائية القديمة، والا تستصغر طاقات وامكانيات هذا الشعب العظيم، والا تنخدع بسياسات اميركا ،التي لم تعد يهمها امن الخليج الفارسي ولا نفطه بعد ان تحولت هي الى منافس للسعودية في السوق النفطية، وما هرولتها لسد فراغ النفط السعودي بنفطها الا جانبا من هذا التنافس، ولن تخوض اميركا بالتالي اي حرب لا مصلحة لها فيها ، كما آن الاوان ان تدرك القيادة السعودية، ان أمن منطقة الخليج الفارسي ، هو أمن واحد لا يتجزأ كما لا يمكن استيراده ، فلا يمكن ان ترفل السعودية بالامن بينما تسلبه من الاخرين، ويكفي ان تنظر هذه القيادة الى "رؤية 2030" وطرحها خمسة بالمائة من اسهم ارامكو للاكتتاب العام، وكيف تبخرت بمجرد سقوط عشر طائرات مسيرة على بعض مصافي ارامكو، فالنفط والاستثمار والاقتصاد والتجارة ، كلها امور بحاجة الى أجواء آمنة بعيدة عن الحروب والصراعات والفتن والتواجد الاجنبي، لذلك لن تجد هذه القيادة من جهة في العالم أحرص على أمن منطقة الخليج الفارسي، من بلدانها.