الحلف الإبراهيمي أم حلف الهيكل؟
كانت الاتفاقات الإبراهيمية قد انطوت في ما طوته عملية طوفان الأقصى التي أثبتت أن الشعب الفلسطيني يرفض كل أشكال الاتفاقيات التي تحاك خارج أرض الصراع، وأن طموحاته تتجاوز بضعة دولارات تجبى من الضرائب ووظائف توزع لإلهاء الفلسطينيين عن قضيتهم الأساسية.
لم تسقط كل الاتفاقيات على أرض غزّة فقط، ولكن المواجهات اليومية في الضفة الغربية أكدت أن الهم الفلسطيني واحد. في الوقت نفسه، جاء موقف الجبهات المساندة ليسقط مقولة "يا وحدنا"، وليثبت أن جبهة المقاومة اتسعت، وأصبحت أكثر قوة وثباتاً.
من نتائج المعركة التي أصبحت همّاً يؤرق العدو وحلفاءه، صورة الهزيمة التي لم يعد من الممكن محوها، بغض النظر عن المآلات العسكرية التي تتجه الحرب نحوها.
لم يعد منظر الدبابات داخل محور فيلادلفيا أو خان يونس أو رفح يقنع أحداً بالنصر، فتلك الدبابات لا تلبث أن تنسحب تحت وابل من ضربات المقاومة. إن منظر آليات أحد أقوى جيوش العالم المحترقة في شوارع وبلدات غزّة سيبقى وصمة عار على جبين جيش العدو، ومن دعمه بالأسلحة والآليات، ومن تقاعس عن التصدي له بذريعة أنه الجيش الذي لا يقهر.
الهزيمة الصهيونية – الإمبريالية لا تقف عند حدود الخسائر العسكرية، فالمعركة السياسية، رغم سطوة الولايات المتحدة على العالم، تتجه بعكس البوصلة الأميركية، فمشاهد المصفقين للمجرم نتنياهو لم تكن سوى محاولة لطمس حقيقة أن 96 نائباً (نصف الديمقراطيين) قاطعوا ذلك الخطاب، في سابقة هي الأولى من نوعها، علماً بأن من قاطعوا خطابه عام 2015 بعد الحرب على غزّة 2014 كانوا 58 نائباً ديمقراطياً.
في فرنسا، فازت "الجبهة الشعبية الجديدة" بزعامة ميلينشون الذي خرج إلى الشارع مع المتظاهرين ضد المجازر التي يرتكبها الجيش الصهيوني في غزّة، طبعاً يضاف ذلك إلى اعتراف النرويج وإسبانيا بالدولة الفلسطينية. باختصار، استطاعت معركة طوفان الأقصى خلال 300 يوم تقريباً تحقيق مكاسب سياسية للقضية الفلسطينية لم تستطع الأنظمة العربية بجيوش دبلوماسييها ووزارات خارجيتها تحقيقها على مدى أكثر من مئة عام من عمر هذه القضية.
يتساءل مثقف "موضوعي" من أصحاب نظرية "المغامرة": هل ندفع آلاف الضحايا وندمر كل فلسطين من أجل الحصول على اعتراف الغرب بدولة فلسطينية غير موجودة على الأرض؟
اللحن نفسه الذي سمعناه عام 2006 قبل حرب تموز المجيدة، لكن النتائج تدحض طرح مثقفنا. منذ انتهاء حرب تموز، لم يجرؤ العدو على الاقتراب من لبنان، حتى اللحظة التي قررت فيها المقاومة فتح جبهة المساندة من جنوب لبنان، أي أن قرار الحرب لم يعد بيد العدو، بل بيد المقاومة، وهذا تغيير كبير في شروط الصراع وقواعد الاشتباك التي وضعت بقرار أميركي، ومنذ حرب تشرين 1973 قرار الحرب بيد العدو.
داخلياً، يصعد اليمين على أشلاء الفلسطينيين، ونتنياهو الذي يمكن أن يواجه ملاحقة قضائية بعد مغادرة رئاسة الوزراء، أصبح واحداً من أبطال اليمين الذي سيهب للدفاع عنه وحمايته. وإذا ما حصلت انتخابات في الكيان، فإن فرصة عودة اليمين المتطرف إلى الحكم قائمة، في ظل تفتت قوى المعارضة وغياب الرموز المقنعة محلياً ودولياً، لكن الانتصار الداخلي لنتنياهو لا يفيد في محو صورة الهزيمة واستعادة صورة "إسرائيل" غير القابلة للهزيمة. بعبارة أخرى، إن التطورات داخل الكيان لا تحتل موقعاً متقدماً في القرار العسكري – السياسي للعدو وحلفائه.
لم يبقَ في جعبة الكيان والقوى الإمبريالية الداعمة له سوى العودة إلى الإقليم وخلق تحالف قديم – جديد يفتح أمام الكيان الصهيوني أبواب تطبيع جديدة لاستعادة سطوة هذا الكيان على المنطقة. الحلف الإبراهيمي، كما سمّاه نتنياهو، في اتكاء واضح على الأسطورة اليهودية، يضم الدول التي أقامت سلاماً مع "إسرائيل" والدول التي تنوي إقامة هذا السلام. هدف الحلف هو التصدي لقوى الإرهاب والتطرف، وهو الاسم الذي تطلقه الإمبريالية على أعدائها.
الإرهاب لا يتعلق بعدد الضحايا، ولا بطريقة قتلهم، ولا بتدمير 93% من المنشآت التعليمية و90% من المنشآت الصحية. الإرهاب الذي تحدث عنه نتنياهو وصفق له أعضاء الكونغرس يتعلق بجنسية القتيل ولون جلده. إذا قتلت أبيض أو حامل جنسية غربية، فأنت إرهابي. أما بقية شعوب عالم، فهم "غوييم" لا مانع من قتلهم.
في القرن الثاني عشر، ظهر تنظيم عسكري "فرسان الهيكل" في أوروبا والأراضي المقدسة، بهدف حماية القبر المقدس وطريق الحجاج المسيحيين القادمين لزيارة القدس، وتحول هذا التنظيم إلى قوة اقتصادية سيطرت على أوروبا، وحصلت على ميزات جعلتها فوق كل القوانين المحلية، وسمحت لها بالانتقال داخل أوروبا من دون حواجز، وأعفتها من الضرائب، وجعلتها مصباً لجميع الأعمال الخيرية. بلغت قوة هذا التنظيم أن ملك فرنسا فيليب الرابع لم يكن قادراً على سداد ديون بلاده لفرسان الهيكل.
اليوم، يتكئ نتنياهو في حلفه الإبراهيمي على الأسطورة التوراتية التي تمنح اليهود حق السيطرة على القدس "أورشليم". حقيقة الصراع تقول إن الحركة الصهيونية هي الواجهة السياسية لقوة اقتصادية عالمية تشمل يهوداً ومسيحيين وعرباً، وأن مصالح هذه الحركة تقتضي وجود دولة اسمها "إسرائيل".
من سيجتمعون لتأسيس الحلف سيدعون الدفاع عن المقدسات التي تقع على "جبل الهيكل" وتوحيدها تحت اليافطة الإبراهيمية، لكنهم في الحقيقة "حلف الهيكل"، إذ يجتمعون دفاعاً عن هيكل الرأسمالية الغاشمة التي تنهب مقدرات الشعوب وترتكب بحقهم مجازر يندى لها جبين البشرية. من سيجتمعون حول تلك المائدة سيرسمون على أبواب قاعة الاجتماع الصليب والهلال والنجمة السداسية، لكنهم في الداخل سيرتدون دروعاً مرسوماً عليها إشارة الدولار.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة