الحرب الشاملة أو الهزيمة
الاشراق | متابعة.
حاول محور العدوان تكرار تاريخه بكل الوسائل، فكشف أوراق معظم عملائه في المنطقة من خلال إطلاق حرب التطبيع المقترنة بمليارات الدولارات لإحلال ثقافة المساومة مكان ثقافة المقاومة.
يسود الاعتقاد لدى أغلبية المواطنين العرب أن حرباً ما خاضتها الجيوش العربية، مدعومة بمقاومة فلسطينية، في 15 أيار/مايو 1948، وأن هذه الحرب انتهت بهزيمة الجيوش العربية وقيام "دولة إسرائيل"، وتشريد الفلسطينيين من أرضهم.
ويختلف هؤلاء المواطنين في دور الجيوش العربية في الحرب، لكنهم اختاروا حلاً سهلاً، فالجيوش كانت مقدامة وبطلة في معاركها، لكن الأنظمة كانت خائنة ومتواطئة مع المستعمر، فحدثت الكارثة.
هذه السردية لا تمتّ إلى ما حدث في فلسطين بصِلة. أسطورة صنعتها الآمال والخيبات. الحرب بدأت قبل تاريخ 15 أيار/مايو المشؤوم بستة شهور. طبعاً، المقاومة الفلسطينية بدأت منذ صدور وعد بلفور وما زالت قائمة حتى اليوم. في تشرين الثاني/نوفمبر 1947 أصدرت الأمم المتحدة قرارها إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتقسيمها إلى دولتين، عربية وعبرية.
رفضت الدول العربية القرار، وبادرت إلى إرسال جيش إلى فلسطين لإعاقة تنفيذه، وهو الذي عُرف بجيش الإنقاذ، واشتًهر من قادته فوزي القاوقجي. ودخل هذا الجيش فلسطين من دون معارضة من الانتداب البريطاني، ولم يتجاوز قوامه في أفضل حالاته 6000 جندي.
في المقابل، كانت العصابات الصهيونية تحشد مقاتليها المسلحين وأصحاب الخبرة القتالية العالية، سواء من خلال مشاركتهم في الفيلق اليهودي، الذي حارب إلى جانب بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، أو اللواء اليهودي، الذي حارب إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. قُدِّر عدد المستوطنين الذين التحقوا باللواء اليهودي بنحو 130 ألف مستوطن، تم إلحاقهم بالعصابات الصهيونية بعد حل اللواء عام 1946، وذهب معظمهم إلى عصابة "الهاغاناه"، التي شكلت نواة جيش الاحتلال الإسرائيلي.
على الأرض، حدثت مذبحة دير ياسين في 9 نيسان/أبريل 1948، وسقطت طبريا في أيدي العصابات الصهيونية في 18 نيسان/أبريل 1948، وتلتها حيفا في 21 نيسان/أبريل، ويافا في 13 أيار/مايو. وبحسب المؤرخ اليهودي إيلان بابيه، فإن نصف القرى الـ 530 التي دمّرتها العصابات الصهيونية، جرى تدميرها قبل 15 أيار/مايو 1948.
وعلى رغم إعلان قيام "دولة إسرائيل" في هذا التاريخ المشؤوم، فإن الحرب لن تنتهي إلّا في كانون الثاني/يناير 1949، عندما عقدت اتفاقيات الهدنة في جزيرة رودس، وتخلى العرب خلالها عن مناطق خُصصت لهم في قرار التقسيم، مثل منطقة المثلث ووادي عارة، في الجليل الفلسطيني.
في الحديث عن تلك الحرب، نسرد كثيراً من البطولات، والمجازر، ويكاد الباحثون يُجمعون على أن كلّ المعارك، التي انتقلت من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى أخرى، كانت في بدايتها انتصاراً للمقاومين العرب، لكنها انتهت جميعاً بهزيمتهم. مرة أخرى يبرز دور الأنظمة العربية المتواطئة، والدعم البريطاني العلني، وما يغيب عن هذه السردية أن المعارك كانت متفرقة: مجموعات من بضع مئات من الرجال تواجه قوة عاتية مدججة بالسلاح، ولم تحدث مواجهة حقيقية بين جيشين، عربي وإسرائيلي، ولم يكن الكل العربي في مواجهة الكل الإسرائيلي، في أي مرحلة من مراحل تلك الحرب.
ولأن التاريخ يصمم على إعادة نفسه كمأساة في المرة الأولى عندما خسرنا فلسطين بعد دخول الجيوش العربية، وفي مقدمتها جيش الإنقاذ، تحت نظر بريطانيا والعصابات الصهيونية وسمعها، وكمهزلة في المرة الثانية عندما عقد بعض العرب سلماً مع "إسرائيل" وأدخلوا بضعة آلاف من رجال الشرطة وجندوهم تحت نظر "إسرائيل" والولايات المتحدة وسمعهما، فعلينا أن نتعلم درس التاريخ حتى لا نكون ضحيته مرة أخرى.
منذ اتفاقيات ما سمي "السلام" ازداد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية بنسبة 600%، وارتفع عدد الشهداء من الفلسطينيين، وبادرت الولايات المتحدة إلى الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لـ"إسرائيل". لم تستطع شرطة سلطة أوسلو حماية حياة فلسطيني واحد، بل لم تستطع حتى حماية حياة رئيسها، الذي اغتالته الأيادي الصهيونية بعد حصاره في مقره في المقاطعة في مدينة رام الله.
منذ عام 2000 والتاريخ يغير مساره، بعد تحرير الجنوب اللبناني واندحار جيش الصهاينة في سابقة تاريخية، عادت هزيمة هذا الجيش في عام 2006 بفعل محور مقاوم متماسك يمتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية من بيروت، عبر دمشق. وعلى رغم تريليونات الدولارات التي بُذلت لهزيمة هذا المحور، من خلال ما سُمِّي "الثورة الخضراء" في إيران، أو "الربيع العربي"، فإن هذا المحور خرج منتصراً، واكتسب حلفاء جدداً يدعمون مشروعه.
لقد حاول محور العدوان تكرار تاريخه بكل الوسائل، فكشف أوراق معظم عملائه في المنطقة من خلال إطلاق حرب التطبيع المقترنة بمليارات الدولارات لإحلال ثقافة المساومة مكان ثقافة المقاومة، وأطلق حرب التجويع من خلال الحصار والعقوبات على سوريا وإيران ولبنان واليمن، من دون أن تتوانى آلته العسكرية للحظة عن ارتكاب المجازر بحق المدنيين العزّل في كل مكان من هذا العالم.
المشهد على الأرض يقول إن العدو هُزم، وإننا نسير في درب الانتصار: بطل يعبر الحدود المصرية الفلسطينية لينفذ عملية تعكس حقيقة موقف الشعب العربي المصري؛ مواطنون عزّل يتدفقون على منطقة كفرشوبا اللبنانية، ويجبرون العدو على التراجع عن مخططاته للمنطقة تحت وطـأة بنادق الجيش اللبناني المشرعة في وجوههم، وبنادق المقاومة التي تزرع الرعب في قلوبهم؛ أبطال يخوضون معركة باسلة في جنين، ويدمرون آليات عسكرية صهيونية في مفاجأة صاعقة للعدو، الذي لم يستفق من هول المفاجأة إلا على صوت رصاصات بطلين آخرين نفذا عملية بطولية في مستوطنة "عيلي".
بعد أن أدرك جيش الاحتلال عجزه عن القيام بعملية واسعة في الضفة الغربية، بسبب احتمال سقوط عدد كبير من الضحايا، وخصوصاً بعد عملية جنين. وسط التخبط الإسرائيلي، جاءت انتفاضة العرب السوريين في الجولان على مشاريع مصادرة أراضيهم، وتمكنهم من فرض تعليق مشروع التوربينات، وتأكيدهم هويتهم العربية السورية ليزيد الارتباك داخل دولة الاحتلال، وفي جميع المستويات.
إذا ابتعدنا قليلاً فسنجد أن فلسطين من شماليها إلى جنوبيها، وعند جميع حدودها تقريباً، تشهد تصعيداً ضد كيان الاحتلال، وأن إنجازات "إسرائيل" السياسية، وخصوصاً في مجال التطبيع، تقوّضت إلى حد كبير، من خلال الفعل العربي المقاوم. لكن نشوة التقدم يجب ألا تغمض أعيننا عن قوة عدونا واستعداده لارتكاب المجازر في سبيل استعادة هيبته.
علينا تجنيد الكل العربي في الأراضي المحتلة في مواجهة الكل الإسرائيلي، وهذا لن يتحقق إلّا برفع سوّية التنسيق وصولاً إلى قيادة موحَّدة للنضال والمقاومة الشعبية في مواجهة مخططات العدو في الأرض العربية المحتلة.
لا بد من رفع شحنة التعبئة خارج الأراضي المحتلة من خلال النشاطات الداعمة في الشارع وداخل المؤسسات السياسية والثقافية. لقد صنعت المقاومة الظروف المواتية للنصر، وما علينا سوى التوحد والسير في هذا الطريق.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة