حرب الشجعان
في مطلع ثمانينات القرن الماضي، أطلق الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مصطلح "سلام الشجعان". كان هذا المصطلح بداية لطريق طويل كانت محطته الأولى اتفاقيات أوسلو، واستمر في الانحدار حتى وصل إلى المشهد الذي نراه اليوم من صمت وتواطؤ من سلطة يفترض أنها تقود الشعب الفلسطيني، لكنها على أرض الواقع تتحالف مع أعدائه، وتسلط قواتها الأمنية على مناضليه، وتصمت عن أكبر مجزرة ترتكب ضد أبنائه في قطاع غزّة.
عرفنا على طول المسيرة أن الشجعان المقصودين بذلك السلام، ليسوا أولئك الذين خاضوا المعارك وعادوا من ساحاتها منتصرين يعلوهم الغبار وتخضبهم الدماء، بل هم الأشجع في التنازل عن الحقوق، والرضوخ لإملاءات العدو، وحياكة ثوب نصر مزعوم وإلباسه لهزيمة واضحة وجليّة.
لست في معرض توزيع ألقاب الخيانة والوطنية، ولكن هذا التاريخ يحتاج أن نعود إليه مراراً وتكراراً، لتقييم نتائجه وتعلم دروسه وتجنب عثراته، آخذين في الاعتبار المقدمات التي دفعت إلى اتخاذ تلك القرارات.
كان "سلام الشجعان" تجلياً لأيديولوجيا الهزيمة واليأس بعد سلسلة من الهزائم بدأت في يناير 1974 عندما وافق السادات على سحب جزء كبير من القوات المصرية من شرق قناة السويس (1000 دبابة، وتخفيض عدد الأفراد إلى 7000 جندي)، كرّت سبحة الهزائم من زيارة السادات إلى القدس، واتفاقيات كامب ديفيد، والغزو الصهيوني للبنان 1982، وصولاً إلى مبادرة الأمير فهد في قمة فاس.
انفض العرب من حول القضية الفلسطينية، وتسابقوا إلى توقيع الاتفاقيات مع العدو، ووجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها معزولة في تونس، بعيدة عن ساحات الفعل والتأثير الحقيقي على الأحداث، فتفتق ذهن قيادتها عن مصطلح "سلام الشجعان" وهرولت إلى اتفاقيات أوسلو معتقدة أن ذلك سيعيدها إلى الملعب السياسي.
لكن النتائج تقول إن هذه الأيديولوجيا اليائسة سبقت جميع الهزائم، فقد جاء تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية نفسه تعبيراً عنها، إذ كانت الخطوة الأولى في طريق سحب القضية الفلسطينية من عمقها العربي والتحرري، وتحويلها إلى قضية محلية فلسطينية يختلف أطرافها على حدود وهمية وصلاحيات أمنية ومالية.
ما زلنا نسمع أصداء تلك اللحظة حتى اليوم، عندما يطلق أنصار ما يسمى السلام تصريحات يعلنون فيها قبولهم بما يقبل به الفلسطينيون. بنظر هؤلاء، الفلسطينيون ليسوا أولئك الذين يتصدون للعدو في غزّة وجنين وطولكرم ونابلس، بل الذين ساروا على خطى "سلام الشجعان" ونسقوا أمنياً مع العدو، واعتقلوا المناضلين وأطلقوا عليهم النار واقتحموا قراهم ومخيماتهم.
كما قال الأديب الراحل غسان كنفاني في قصة أم سعد "خيمة عن خيمة بتفرق"، وكأنه يقول اليوم "فلسطين عن فلسطين بتفرق"، فلسطين المقاومين والثائرين التي تمتد من حلب حتى صنعاء، ومن طهران حتى شواطئ البحر المتوسط، تختلف عن فلسطين المحاصرة داخل المقاطعة في رام الله.
ذاك الفدائي الذي يحمل بندقيته في جنين أو جباليا، يجد مداه في مقاومٍ يحمل سلاحه في جنوب لبنان، وآخر يقف على باب المندب، وثالث يقود السفن ذليلة في مضيق هرمز. أما القابع داخل أسر أوسلو وقيود وادي عربة وأغلال كامب ديفيد فيستيقظ كل يوم قلقاً يتحسس كرسيه حتى لا يسحب من تحته عنوة، فينتهي ضليلاً "يبكي كالنساء ملكاً لم يدافع عنه كالرجال".
تعلمنا من "سلام الشجعان" أن الشجعان الحقيقيين لا يذهبون إلى السلام إلا منتصرين. يذهبون بلباس الحرب وليس بالبدلات الأنيقة والسيارات الفارهة. وأن الشجعان يفرضون شروطهم ولا يقبلون بالفتات يلقى إليهم.
هذا الدرس تعلمه مقاومون في لبنان فكنسوا العدو من أرضهم في أيار 2000، وعادوا لهزيمته في تموز 2006، ومثلهم فعل أبطال مخيم جنين في تصديهم الأسطوري لاقتحام المخيم عام 2002، وعاد أبطال الجيش العربي السوري ليكرروا أساطير الصمود في سجن حلب ومستشفى الكندي، ومدينة دير الزور. استمر هذا المسار صعوداً إلى معارك سيف القدس ووحدة الساحات وصولاً إلى ملحمة طوفان الأقصى.
مع كل معركة خاضها المقاومون، سقط عمود من أعمدة خيمة "سلام الشجعان"، لم ييأس المهادنون وهرعوا يشدون أزر بعضهم البعض. لم يتركوا عاصمة من عواصم الطغيان إلا وزاروها، ولا رئيساً لدولة معادية إلا وتملقوه، ألقوا المليارات تحت أقدامهم ليفوزوا بصفقة القرن، لكنهم خسروها، استعانوا بتاريخ زوروه ليصيغوا اتفاقيات سلام إبراهيمية، الدين ونبي الله إبراهيم بريئان منها، لكنها سقطت تحت أقدام ثلة من الشباب أتوا من السماء وخرجوا من الأرض يوم السابع من أكتوبر، ليسقط واسط خيمتهم وتنهار فوق رؤوسهم.
خرج الشجعان الحقيقيون لخوض الحرب، من غزّة والضفة وجنوب لبنان واليمن والعراق وطهران. أعلنوا "حرب الشجعان" على العدو وكل من حالفه ودعمه. وضعوا أيديولوجيا المقاومة والتحرر الوطني في مواجهة أيديولوجيا اليأس، وخرجوا منتصرين.
لم يعلنوا أنهم ذاهبون لتحرير فلسطين، بل ذهبوا إلى تحطيم نظرية الهزيمة وفتح الباب على مصراعيه لنظرية النصر. انتصروا عندما صمدوا، وعندما أثبتوا أن وحدة الجبهات حقيقة قائمة على الأرض، وأن العدو غير قادر على الصمود بوجههم معتمداً على قدراته الذاتية، وأن هذه الأرض ملك لأصحابها، لم ينسوها أو يتراجعوا عن المطالبة بكل شبر منها، رغم مرور 76 عاماً على سرقتها.
بعد 7 أكتوبر، و13 نيسان/أبريل أصبحت "حرب الشجعان" حقيقة ماثلة أمامنا، وواجب كل وطني حر الالتحاق بساحة المعركة بسلاحه أو بقلمه أو بماله.
تاريخنا تعاد كتابته اليوم، تاريخ الشجعان الذين يدافعون عن أرضهم وحقوقهم.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة