ماذا، مرة أخرى "حيوانات بشرية"؟
لم تغب عن أذهاننا الأوصاف والتعبيرات التي أطلقها يوآف غالانت، وزير حرب الاحتلال، مع بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بقوله "إن إسرائيل تحارب حيوانات بشرية، وتتصرّف وفقاً لذلك"، حتى عاد، بعد مضي أكثر من تسعة أشهر على حرب الإبادة التي تمارسها "إسرائيل" في القطاع، ليكرر الأوصاف ذاتها عن المقاومة وشعبها، فهل من قبيل المصادفة أن يعود غالانت، يليه نتنياهو، بيومين أو ثلاثة إلى الخطاب ذاته أم أن الأمر مرتبطٌ باعتبارات وسياق عام يحكم السلوك الإسرائيلي الاستعماري!
لم تكن التعبيرات التي استخدمها الوزير غالانت في حينه، أو تلك التي يستخدمها اليوم، وليدَة لحظة صدمة الطوفان أو "فورة الغضب" التي تولدت في المجتمع الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر مباشرة، كما يحلو للبعض توصيفها، وليس سلوك "إسرائيل" هذا سياسة جديدة تمارسها اليوم، إنّما هو امتدادٌ لسياسة استعمارية تمارسها منذ سنوات عديدة عنوانها الموت والدمار والألم والرعب، وما أنتجته في هذه الحرب ليس إلا مزيجاً مضاعفاً من الفظائع نفسها.
النظر إلى "الآخرين" بدونية، من موضع فوقيّ، بوصفهم شيئاً "مختلفاً"، أغياراً "غوييم"، بدائيين، أو "حيوانات بشرية" يعيشون في هذا الكون المُسخّرِ لخدمة "اليهودي المُختار" يتغذى من مخزون هائل من الكراهية والاستعلاء.
هذه النظرة الفوقية، "الغربية في أصلها"، إلى العالم "المُتخلف"، لم تختفِ منذ زمن أوروبا الاستمعارية، كما لم تختفِ اليوم العنصرية في العقلية العرقية الصهيونية، حتى بعد 9 أشهر من المجازر، وحتى بعدما استُخدمت هذه التوصيفات الاستعلائية العنصرية ضد "إسرائيل" وقادتها من قبل ممثل جنوب أفريقيا ومن قضاةٍ في محكمة العدل الدولية.
ورغم أنها قُوبلت برفض حقوقي دولي شديد، إذ اعتبرت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تصريحات وزير حرب الاحتلال "أمراً مُقززاً ودعوة صريحة لارتكاب مجازر حرب"، ومع ذلك، ما زال نتنياهو ووزير حربه الصهيونيّ يرى غزة "قفص حيوانات بشرياً"، يذبح منها ما يشاء وقتما يشاء وكيفما يشاء، ثم تسوّى بالأرض، وينكّل بشعبها "البدائيّ" الذي تُقطع عنه الكهرباء والماء والطعام، كما فعل أسلاف الوزير الأوروبيون مع "الحيوانات البشرية" التي جلبوها من السنغال والكونغو حتى ماتوا من العطش والبرد والمرض خارج أسوار الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة في بروكسل، لأنهم "حيوانات بشرية لا أكثر".
هذا التوصيف الذي يستخدمه غالانت متعمّداً ومستفَّزاً فيه ما يكفي للدلالة على نية "إسرائيل" المقرونة بالفعل للقيام بكل شيء وأي شيء للانتقام من الفلسطينيين، حتى لو تسبب هذا الانتقام في قتل الأطفال والشيوخ وهدم المستشفيات والملاجئ والمدارس والمساجد على رؤوس النازحين، فما دام هؤلاء مجرد "حيوانات بشرية" فكل أذى تُحلقه "إسرائيل" بهم، ومهما كان شنيعاً، فهو "جائز ومشروع لأنهم يستحقونه"!
والأهم، إضافة إلى ما أشرنا إليه من تجذّر هذا النهج في الوعي والسلوك الإسرائيليين منذ نشأة هذا الكيان الغاصب، أن فهم رد الفعل الإسرائيلي الذي يعتمد سياسة التدمير الكامل من دون قيود ومن دون أي اعتبار لقواعد القانون الدولي الإنساني يقتضي فهم الخلفيات والدوافع التي تحركها اليوم تحديداً وتدفع قادتها إلى العودة والإصرار على ترديد أبجدياتها، وخصوصاً وصف الفلسطينيين "بالحيوانات البشرية"!
أول هذه الدوافع هو إعادة إنتاج سردية الحرب وروحها داخل المجتمع الإسرائيلي كأنها في يومها الأول، حتى يبقى المجتمع الإسرائيلي مُنقاداً خلف حكومته وأجندتها، فتخمد كل الأصوات والاحتجاجات الداعية إلى وقف الحرب والمُطالِبة بالذهاب إلى مسار تفاوضي يُفضي إلى ترتيبات سياسية، بما يسمح لنتنياهو وشركائه بالتهرب من المساءلة المجتمعية التي ستُنهي حُكم هذا الائتلاف اليمني المتطرف في حال توقفت الحرب، وكأن شحنة الغضب التي يجري تأجيجها عبر استمرار استحضار سردية "الحيوانات البشرية" ستخفف، مع الوقت، حجم ما وصفه كثير منهم بالفشل العسكري والأمني الهائل في السابع من أكتوبر وما تلاها. ولأن هذه السردية بحاجة إلى دعم حتى تبقى حاضرة في وعي الإسرائيليين والعالم، فلا بد من استمرار التذكير بها وبثها عبر المنابر الإعلامية بين الفينة والأخرى.
وثانيها هو التنافس المحموم الذي يتسابق فيه قادة "إسرائيل" بالتحريض على الفلسطينيين وسكان غزة على وجه الخصوص، إذ يتفنن الساسة والعسكريون ورجال الدين الإسرائيليون في التحريض على الفلسطينيين، حتى بات تكرار وصف "الحيوانات" على الفلسطينيين جزءاً أساسياً من الخطاب السياسي لهؤلاء.
وفي سباق التحريض هذا، تستخدم "إسرائيل" وقيادتها وجيشها كل ما في جعبتها بلا حدود، فتسحق غزة كلها وتسويها بالأرض بلا رحمة. وبالنسبة إلى سكان غزة وفلسطين عموماً، فإن الرحمة كانت دائماً خارج قاموس العدوان الإسرائيلي، ما يعني أن تكرار ذكر "الحيوانات البشرية" في خطاب غالانت ونتنياهو لم يكن أكثر من وصف "طبيعي" في سياق روح الحرب والقتال التي تسكن المجتمع الإسرائيلي منذ نشأته.
وثالثهما أنه لا بد لـ"إسرائيل" "المسالمة" "المُتحضرة" من نسج رؤيتها للطرف الآخر "البربري المتخلف"، فالفلسطينيون ليسوا بشراً، وهي مصرة على أن تمنح العالم سردية جديدة تنقلها من مقام الدفاع عن النفس إلى مقام "إبادة الحيوانات"، مع المحافظة على "إنسانيتها"!
وحتى تضمن "تبييض صورتها وسلوكها"، لا بد لإسرائيل من استمرار تجريم "الآخر" ونزع الصفة الإنسانية عنه، لضمان أن لا ينقلب العالم ضدها وهي تبيد "هذه الحيوانات"، فيتهمها بمواجهة ما سمّته "الفظائع" بفظائع أكبر، وما تقول عنه "إرهاباً" بإرهاب أفظع! وهو ما عبّر عنه موقف رئيس أركان حرب الاحتلال هرتسي هليفي بعد شهور قليلة من بداية الحرب، حين قال: "نقاتل بإصرار ونبقى بشراً على عكس الطرف الآخر الذي يقاتل كالحيوانات".
والدافع الرابع هو تحقير القانون الدولي ومؤسساته، فـ"إسرائيل" تملك قدرة فائقة على التحطيم، ويتناثر في تاريخها ركام المدن والقرى وأشلاء البشر، وفي سجلها كذلك تاريخ طويل من تحطيم القانون الدولي ورفسه وإدارة الظهر له، فقد وقف نتنياهو مفاخراً قبل أيام بالقول: "أثبتنا أن لا قوة في العالم تستطيع وقفنا".
ولأن القانون الدولي، حين يتعلق الأمر بـ"إسرائيل"، نظري جداً، وخجول جداً، وضعيف جداً، وبعيد كل البعد عن الواقع، فإن كل محظوراته منتهكة مستباحة حد الانفلات المجنون ما دام أن الضحية "عربي فلسطيني"، والقاتل "إسرائيلي يهودي! وربما هي كذلك رسالة للذين يعوّلون على قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف، ويراهنون على "عقلنة" سلوك "إسرائيل" ومنعها من استهداف المدنيين العُزّل، فالجيش الإسرائيلي، وفق غالانت، لا يرى أنه ملزم بهذه الاتفاقيات، فهو يقتل حيوانات "بشرية"، وهذه القواعد والاتفاقيات لا تشملهم!
يبدو أن تجريد الخصوم من صفة الإنسانية بات يمثل أسلوباً أساسياً في الحروب العنصرية، و"إسرائيل" ربيبة الغرب المستعمر وصنيعته وصورته تحاكي اليوم، كما دأبت أن تفعل في ما مضى، ما فعله أسلافها المستعمرون الغربيون الأوربيون الأوائل، وتستوطنها سرديات العنف التي تصوغ الوجدان العام في "إسرائيل"، ويتداخل فيها الديني والثقافي والفني بالضغط على زناد النار التي تكتوي غزة بها اليوم، فتقتلع الأرض وتحرق "حيوانتها البشرية" وهم أحياء!
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة