طوفان أطاح كل الجُدران
الاشراق | متابعة.
لم تأخذ أمواج الطوفان في طريقها جدران الغطرسة الإسرائيلية المادية والنفسية فحسب، وإنما امتدّت أيضاً بركات الموج الهادر لتطال جدراناً عربية، وإن كانت من نوعٍ مغاير.
لا يختلف اثنان في أن صورة السطوة التي عاشت وسادت "إسرائيل" عليها، أعواماً، واتخذتها فزّاعةً وعصاً غليظة هَشّت بها على أعدائها، تهشَّمت وسقطت بفعل ملحمة "طوفان الأقصى" وأمواجه الكاسحة التي جَرَفت غَطرسة "إسرائيل" وغرورها وكبرياءها وتعجرفها. وهو أمرٌ يُقِر به المجتمع الإسرائيلي برمته، لأول مرة، بخلاف عادته، بعد المواجهة من دون مواربة أو مُكابرة، تحت وقع الصدمة والانكسار الفادحين.
ومع هذا السقوط المدوي، سقطت كذلك جُدران القلعة الحصينة و الغيتو النفسي" المُستعلي، والذي ضربته "إسرائيل" حول نفسها ومستوطنيها، حتى ظنوا أن حصونهم تردّ أي سوء قد يأتيهم من أعدائهم، ولم يعلموا بأن لا عاصم اليوم من جَرفِ الطوفان الذي أجراه الله أمواجاً أسقطت سطوة "الجيش الذي لا يُقهر"، فصار جيشاً يتهاوى ويتقهقر.
ولم تأخذ أمواج الطوفان في طريقها جدران الغطرسة الإسرائيلية المادية والنفسية فحسب، وإنما امتدّت أيضاً بركات الموج الهادر لتطال جدراناً عربية، وإن كانت من نوعٍ مغاير.
ففي تلاؤم طرديّ لافت مَقصُودٍ وموجَّه، وفي مقابل صورة "إسرائيل البُعبع" و "جيشها الذي لا يُقهر"، وجدرانها المادية والنفسية الحصينة والمتغطرسة، شُيّدت "معازل" مادية ونفسية عربية، قَوامها الخوف والانكسار والخيبة، وأُريد لنا أن نبقى حبيسي جدرانها التي تطاولت وتعالت بفعل سلوك جزءٍ كبير من النظام الرسمي العربي المُنبطح، ومعاركه "الدونكشوتية" الشكلية المصطنعة، والتي خاضها أمام "إسرائيل" وخرج أمامها مُنكسراً، وكان لسان حاله يردد، في ترنيمة ذليلة، بعد كل مواجهة، أياً تكن طبيعتها: "لا طاقة لكم بإسرائيل فارجعوا".
ويا ليته اكتفى بشعور الدونية وسلوكها أمام "إسرائيل"، ووقف عندهما، وإنما ذهب مهرولاً ازدلافاً وتقرُّباً إليها، يتوسّل إليها ويطلب ودّها وشفاعتها، على رغم أنه يعلم بأن اقترابه منها يحرق أجنحته كفراشة متهافتة إلى النار. ثم زاد "المفتونون بإسرائيل" في تشييد جدران انكسارهم بأن تجرأوا بكل وقاحة على إعادة بناء الرواية التاريخية وإنشاء سردية جديدة تتقاطع مع الرواية الصهيونية السائدة، وتقوم أساساً على تزييف الحقائق والوقائع التاريخية وتطويعها لخدمة الرواية الإسرائيلية، وتُقَدّم "إسرائيل" كـ"ضحية" لا كجانية، على نحو يُعلي شأنها ويحُطُّ من حياة الفلسطينيين وحقوقهم.
وكاد قطار التطبيع والهرولة، بعد أن كانت السعودية على أهبة ركوبه بدورها، بعد كُلّ من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، أن يصل بـ "إسرائيل" إلى البيت الحرام، وأن يضعها موضع القداسة في مشهد مبتذل مَقيت يُعبّرُ عن دونية عصور العبودية والرِّقّ.
طوال أعوام، ظلت شعوبنا العربية أسيرة خوفها من "القَدَرِ الإسرائيلي" وفزاعة الغرور والغطرسة الإسرائيليَّين، فتقوقعت وانطوت خلف مَعَازِل الخوف والارتجاف من الإسرائيلي، الذي "يملك الأسلحة المتطورة والتقنيات والعدة العتاد، ويملك حلفاء وغطاء يَضَعونه فوق الأعراف والقوانين الدولية، ويُغطّون على جرائمه وأفعاله". فصرنا ندعو بما تدعو به العجائز ونردد ما يُردّدنه: "للبيت رب يحميه". وتنامت خيباتنا النفسية وترعرعت نتيجة ثقافة الانبطاح والاستسلام، التي عصفت بنا في مواجهة قضيتنا المركزية والمصيرية، فلسطين، وجعلتنا عاجزين عن فعل أي شيء.
أمام سطوة هذا الخطاب الانهزامي الرسمي تسرّبت الثقافة الانهزامية إلى خطابنا وسلوكنا، فبتنا غير مبالين ولا معنيين بالدفاع عن الرمزيات المادية والمعنوية أو الدلالية المُقدّسة، أياً تكن مكانتها، دينياً وثقافياً وسياسياً، في العالمين العربي والإسلامي، بل إن لزم الأمر، التخلي عنها، لأن "لها رباً يحميها".
ولولا بعض بصيص الأمل الذي استمرت تزرعه المقاومة ومحورها المُمتد فينا لأعوام، وهي تناطح هذا الاحتلال، ومن خَلفِه منظومة الاستعمار الغربية وحلفائها الإقليميين من العرب، لقلنا فعلاً أن "إسرائيل" "جارة" وأنها "قَدَرٌ" لا مفر من تَقبُّله والتعايش معه. ربما لذلك، لوهلة، لم يستطع "بعض" العقل العربي المسكون بصور هزائم المطبعين وارتهانهم لبعض الفتات على أعتاب الباب الإسرائيلي، أن يستوعب مشهد "الطوفان"، فكان لسان حال جزء كبير من الذين أخذهم "الزمن الإسرائيلي" يُردد: "مستحيل"، "هناك مؤامرة". هذا لا يمكن أن يحدث!
لقد فكك طوفان الأقصى وارتدادات أمواجه أضلاع مثلث الانكفاء والانهزامية في الوعي العربي، وكَسَرَ حواجز الخوف والصمت المخزي أمام كل قضية رمزية، مثل فلسطين والقدس، وأعاد إلى العقل العربي شعور الأنفة والعزة والثقة بأن توافر الإيمان بالحق والإرادة الصلبة، قادرٌ على أن يُثخن في "بيت العنكبوت الإسرائيلي" حتى مع عتاد وإمكانات بسيطة، وأن يرسم ملامح النصر في جولة نهائية فاصلة مرتقبة.
وما صُور الابتهاج العربي الشعبي العام العارم بمشاهد اقتحام مستوطنات العدو ومعسكرات جنوده، من جانب قِلة قليلة العدد والعُدة والعتاد، وما رافقها من "تكسيرٍ" لهيبة العدو المُصطنعة في عُقر قِلاعه الحصينة، سوى تعبير عن التعطش الشديد والتوق إلى مشهدٍ رَسَمَه رب العزة مع تنزيل الكتاب، حين قال: "فجاسوا خلال الديار"، أي تجولوا في أرضنا المغتصبة ذهاباً وإياباً وأذاقوا "إسرائيل" وجنودها ومستوطنيها هزيمة وإذلالاً لن يُمْحَوا من ذاكرتهم، كما حفروا عميقاً في ذاكرتنا ووعينا العربيين، وشتان ما بين ذاكرة كسيرة مهزومة وذاكرة عزيزة منتصرة.
نعم، هي نشوة الانتصار العسير الذي لطالما انتظرناه وتُقنا إليه. هي توق الظمآن إلى الماء. هي مخاض الميلاد المؤلم والمُفرح في آن. هي ريح يوسف التي وجدها يعقوب، وهي قُرة عين أم موسى، عليه السلام، حين استردته.
هو الدم الذي يكتب التاريخ ويكسر المعادلات في أشرس صراع عرفه القرن بين الحق الراسخ منذ كنعان، والباطل التلمودي المنسوج من خزعبلات الأساطير المؤَسِّسَة للسياسة الصهيونية. وهل ظننا أن فلسطين يمكن أن تعود إلى أصحابها بالورود. هل ثمة من شك في أن علينا أن نرويها من طوفان دمنا وعَرَقِنا حتى تُزهر عربية إسلامية من جديد، وتغسل دنس الغزاة العابرين ورجسهم، ولِنعلَم بأن وعد الله حق، لكن أكثرنا لا يعلمون.