بسموم الكراهية والتجريم، هكذا "ينتصر" نتنياهو على خصومه
منذ انطلاق الحرب التدميرية الطاحنة التي تشنّها "إسرائيل" اليوم ضد الشعب الفلسطيني، وتحديداً في قطاع غزة، بنى بنيامين نتنياهو موقفه منها وسرديّته حولها على قاعدة رفض الاعتراف بالذنب، وخاض حربه مع المقاومة الفلسطينية على أساس أنه المُنقذ والمخلّص للشعب اليهودي الذي يتعرّض وفق تعبيره "لحرب وجودية لا مجال إلّا الانتصار فيها".
أدرك نتنياهو أنّ عليه، أمام حجم الكارثة التي حلّت بـ "إسرائيل" وحجم مسؤوليته عمّا حدث، أن يلجأ إلى مقاربات تُعفيه من تحمّل التبعات الثقيلة التي قد تترتّب عليه شخصياً وعلى مستقبله السياسي، في حال وضعت الحرب أوزارها.
فاستعان نتنياهو بمقاربتين جَزَمَ، وهو العارف بالمجتمع الإسرائيلي وعُقدِه العميقة الدفينة، أنهما ستُعينانه على التهرّب من المسؤولية والبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة؛ الأولى تقوم على التملّص من الاعتراف بالذنب واستمرار المناورة والهروب إلى الأمام باستدامة هذه الحرب، على أمل أن يتحوّل، مع الوقت، من مذنب مُلاحق إلى بطلٍ مُنقذ، أطاح بحكم "الأشرار" حماس والمقاومة، وخلّص "إسرائيل"، والعالم، من شر مُحدق، وهو ما يعكف مؤخّراً على تسميته بالانتصار المطلق أو التام...!
ولم يكتفِ نتنياهو باستمرار قرع طبول الحرب وإشعال نيرانها، بل سعى لمنع ظهور كلّ الأصوات المنتقدة لسلوكه وإحباطها، عبر الإطاحة بكلّ ما يمكن أن يقف عائقاً في طريق استمرار حكمه وروايته وصراعه على الرأي العام الإسرائيلي.
لجأ نتنياهو، لتحقيق هذه الغاية، إلى رفع الشرعية عن خصومه في الشارع وفي النظام السياسي، وتجريمهم عبر حملة محمومة في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي الميدان من خلال إخراج نُشطاء وأنصار اليمين الصهيوني للتظاهر ضد معارضيه، بهدف إظهار أنّ هنالك أصواتاً كثيرة داخل المجتمع الإسرائيلي تلتقي مع أهدافه، وتنادي باستمرار هذه الحرب حتى تحقيق الانتصار.
وكنتيجة لهذه المقاربة، وجدت قيادات ورموز المنظومة العسكرية والأمنية الإسرائيلية نفسها في خضمّ حملة تحريض ونزع شرعية شرسة من قبل وزراء وأعضاء كنيست في الائتلاف الحاكم، بهدف قمعها وإسكاتها، وربما كذلك دفعها نحو الاستقالة.
هذه الحملة على قادة "الجيش" بلغت درجة غير مسبوقة في المجتمع الإسرائيلي، وبات رموز "الجيش" عُرضة للتهجّم والتحقير والتقليل من مصداقيتهم من قبل وزراء وأعضاء كنيست، ومن وسائل إعلام ومن جمهور المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية ومن جمهور اليمين الحاكم.
وقد شنّ نتنياهو شخصياً مؤخّراً هجوماً لاذعاً على "الجيش" بسبب تدريبات عسكرية في الضفة الغربية، طُرحت فيها محاكاة اختطاف المستوطنين لفلسطينيين، ولم تشفع للمستوى العسكري اعتذارات قياداته وعلى رأسهم رئيس هيئة الأركان شخصياً.
ووجد نتنياهو في هذا الحدث مناسبة إضافية ليضرب فيها الإجماع الإسرائيلي حول "الجيش" وما يُشكّله من رمزية جامعة في الوعي الإسرائيلي، في مسعى منه لتسديد ضربة مباشرة لخصومه ومنتقديه من جنرالات المعسكر الوطني بقيادة غانتس، وربما بصورة غير مباشرة لبايدن شخصياً، الذي لا يُخفي رغبته في الخلاص من نتنياهو وحكومته اليمينية، وفي أن يتولّى غانتس رئاسة حكومة الاحتلال في مرحلة ما بعد نتنياهو.
ولم يقف سجال الكراهية والتخوين هذا عند جنرالات الحرب، إنما طالت نيرانه حراك عوائل الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، واتخذ شكلين وتضمّن روايتين.
أما الشكل الأول فهو الحملة المسعورة التي يشنّها نتنياهو ويمينه وأنصارهم ضد حراك عوائل الأسرى وممثّليهم على الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام المختلفة. إحدى الادعاءات، أو الروايات التي يسوّقها اليمين الصهيوني بهدف نزع الشرعية الوطنية عن حراك الأسرى، هي أن عوائل الأسرى "يسارية وتبالغ في التصنّع".
أما الوجه الثاني، أو الرواية الثانية لهذه الحملة الدعائية فهو أنّ حراك واحتجاجات عوائل الأسرى تخدم السنوار والمقاومة، وهذا يتقاطع بالضبط مع ما قالته سارة نتنياهو وزوجها أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، من أن المقاومة تزيد في تعنّتها واشتراطاتها وهي تتابع حراك أهالي الأسرى، وأنّ عليهم التوقّف عن الاحتجاج، وأن يتركوا للحكومة أن تتصرّف.
وقد كشفت القناة الـ 12 العبرية أن عائلات الأسرى الإسرائيليين في غزة صرّحت خلال لقاء جمعها مع وزير الخارجية الأميركي بلينكن، أنها محبطة من طريقة تعامل حكومة نتنياهو معها ومن الحملة الدعائية الإسرائيلية لتشويه صورتها.
يسعى نتنياهو لتقديم أهالي الأسرى على أنهم عدو أناني "يقدّمون اعتباراتهم الشخصية وأمن أبنائهم على أمن إسرائيل القومي". وفي مقابلة له على راديو "الجيش الإسرائيلي"، مع الصحافية إيلانا ديان الخميس الفائت، تذمّر ممثّل عوائل الأسرى من أن "حملة التحريض تُقدّمنا كعدو يجب إسكاته".
ولم يكتفِ نتنياهو بحملة التشهير والتجريم الإعلامية التي يشنّها على هؤلاء، بل سعى وفي صورة أخرى من صور تكميم أفواه خصومه، إلى نقل المواجهة من الاستوديو إلى الميدان، فعمد إلى تنظيم مسيرة للمستوطنين في مدينة القدس تقدّمها بعض ذوي جنود "الجيش" الإسرائيلي الذين قتلوا في الحرب على غزة، والذين دعوا عوائل الأسرى "إلى الكفّ عن الضغط على الحكومة ومنحها فرصة لتحقيق الانتصار حتى لا تضيع تضحيات أبنائهم سُدى".
وكأنّ نتنياهو بذلك يقول للعالم الذي يضغط عليه لوقف الحرب ولخصومه في المجتمع الإسرائيلي، "موقف بموقف وشارع بشارع وحراك يقابل حراك، فلست وحدي الذي أريد استمرار هذه الحرب..."! وبهذا يحقّق نتنياهو مبتغاه بإشغال المجتمع الإسرائيلي بهذه الصراعات الداخلية وليأكل بعضه بعضاً؛ فأولئك الذين ليست لديهم إنجازات لتقديمها، يأملون أن يتحوّل هذا الجدل إلى صراع يُشعِل نزاعاً بين "الأشقاء" بما يصرف الانتباه عن الحرب المتعثّرة.
يمكن للمرء أن يظل مصدوماً من هذه العقلية المسكونة بالكراهية والوحشية في المجتمع الإسرائيلي، ويمكن للمرء أن يتساءل ببساطة كيف تحوّلت قضية الأسرى إلى معركة سياسية، قبل أن يدرك أن السبب هو أن هناك من يتغذّى على هذا الجدل، فعندما لا تكون هناك حتى الآن صورة نصر من ساحة المعركة، يتمّ نقل المعركة إلى الشعب وإلى الساحات والشوارع.
إن حقيقة أن "إسرائيل" لا تزال غير قادرة على حسم المعركة، أو على الأقل تحقيق إنجاز كبير، أو عندما لا يكون هناك ما يمكن بيعه للشعب كإنجاز، يتم بيع الكراهية، ويبدو أن هذه هي السلعة الوحيدة المتبقيّة في "ترسانة" نتنياهو السياسية.
في غضون ذلك، يبدو واضحاً أنّ صراع البقاء السياسي لنتنياهو وشركائه من اليمين الديني الصهيوني يجعلهم يتمترسون في خندقهم المحكم أي الائتلاف الحاكم، ويحرصون على عدم التفريط فيه لأي سبب كان.
ولا يكتفي "ثلاثي النار والحرب" هذا (نتنياهو، سموتريتش، وبن غفير)، بوجود ائتلافٍ سياسي يجمعهم، وتتقاطع فيه أهدافهم في استمرار هذه الحرب وإطالة عمرها قدر الإمكان، إنما تستمر آلة العنصرية والكراهية اليمينية التي يحرّكونها في نشر السُمّ بكلّ اتجاه في المجتمع الإسرائيلي.
وفي المحصّلة فإن مشاركتهم في جنازة 136 أسيراً إسرائيلياً، أهون عليهم بكثير من أن يقفوا مُدانين بشهادة هؤلاء الأسرى أمام المحاكم الإسرائيلية، في حال قُدّر لهم العودة من الأسر.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة