العراق والثورة الإسلامية والإمام الخميني
لا شك في أن أي قراءة للثورة الإسلامية الإيرانية باعتبارها حدثاً عالمياً شمولياً أوجد تحوّلات كبرى وتغيّرات جذرية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، لا بد أن يكون العراق حاضراً فيها، لأسباب وعوامل وظروف مختلفة، لعلّ منها:
-أن قائد الثورة الإسلامية الإيرانية ومفجّرها الراحل الإمام الخميني، أقام في العراق مدة ثلاثة عشر عاماً (1965-1978)، وفي الوقت الذي كان يعمل فيه ويحشد ويهيئ لإسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، أنشأ بحكم موقعه الديني ونشاطه السياسي علاقات وروابط وطيدة مع أوساط دينية وسياسية عراقية مختلفة، كانت بمنزلة أرضيات لتوسيع قاعدة الدعم والتأييد له من جانب، وأسست في وقت مبكر لمناهج عمل سياسي وجهادي وعسكري ضد نظام حكم حزب البعث في العراق، من جانب آخر.
-أن انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية أفضى إلى أحداث ووقائع كبيرة وخطيرة، أبرزها الحرب التي شنّها نظام صدام في عام 1980 ضد إيران، بدفع وتشجيع وتمويل من قوى غربية وعربية، وما أفرزته وراكمته من مشكلات وأزمات عميقة بين البلدين.
-القواسم الدينية والمذهبية-والثقافية إلى حد ما-المشتركة التي تربط المجتمعين العراقي والإيراني، بحكم الجوار الجغرافي الممتد على مسافة أكثر من 1400 كيلو متر، وفيما تجاور العراق من الجانب الغربي دول ثلاث هي: سوريا والأردن والسعودية، فإنه من الجانب الشرقي، تنفرد إيران بمجاورتها للعراق من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وطبيعي أن يخلق التجاور الجغرافي تراكمات تاريخية من العلاقات والروابط الاجتماعية التي تتداخل فيها المصالح والمنافع مع الأزمات والمشكلات.
-طبيعة مواقف بغداد وطهران وتوجّهاتهما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، وقبل ذلك، الموقف الإيراني العقلاني والمتوازن حيال غزو نظام صدام حسين لدولة الكويت صيف عام 1990، تلك المواقف والتوجهات التي وضعت الأسس والركائز والمنطلقات السليمة لعلاقات إيجابية تمحورت حول نقاط التوافق والالتقاء أكثر من تقوقعها واستغراقها في نقاط التقاطع والافتراق.
-التحديات والتهديدات والمخاطر المتشابهة أو المتماثلة التي واجهت وتواجه العراق وإيران، خصوصاً مع تنامي وتيرة الصراع وتصاعد المواجهة بين ما يمكن تسميته بمحور التطبيع والهيمنة الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، ومحور المقاومة والممانعة بزعامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وثمة تداخل كبير بين النقاط المشار إليها، باعتبار أن عواملها وظروفها ومحركاتها الداخلية والخارجية، إما هي واحدة في بعض الأحيان، أو أنها متشابهة إلى حد كبير، إن لم تكن متطابقة في أحيان أخرى.
ففي الوقت الذي ساهم فيه الإمام الخميني من النجف الأشرف مع شخصيات دينية وعلمائية كثيرة، في مقدمتها آية الله العظمى المفكر الشهيد محمد باقر الصدر، في صوغ منهجية الثورة الإسلامية وبلورتها بإطارها الواسع والشامل، أصبح في دائرة الاستهداف، ليس من قبل نظام الشاه فحسب، وإنما من قبل نظام الحكم في العراق حينذاك، والذي أرغمه في نهاية المطاف على البحث عن منفى آخر.
وبعد انتصار الثورة الإيرانية في شباط/فبراير 1979، برز العامل الآخر لارتباط الثورة بالواقع العراقي، متمثلاً بالدعم والإسناد اللامحدود من قبل نظام الحكم الجديد في إيران للشعب العراقي في نضاله ضد نظام حزب البعث بزعامة صدام حسين، وكان لذلك الدعم والإسناد الأثر الواضح والملموس في تقوية إرادة الشعب العراقي وتعزيزها، وفي إضعاف النظام الحاكم، وبالتالي التهيئة والتمهيد لإسقاطه بمساعدة القوى الدولية، التي لم يعد بإمكانها الدفاع عنه ومساندته. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الثورة مثلت عنصراً رئيسياً في مسيرة نضال العراقيين للخلاص من الديكتاتورية والاستبداد، فهم منذ وقت مبكر رأوا فيها نموذجاً يحتذى به، كنظرية وفكر وسلوك وممارسة، وكان مفجّر الثورة، الإمام الخميني، ملهماً للكثير من العراقيين الذين انخرطوا في العمل السياسي والجهادي، حتى من غير أصحاب التوجّه الإسلامي.
وفي كل تلك المحطات وما بعدها التي تمثلت، في جانب مهم منها، بدعم إيران للعملية السياسية الديمقراطية في العراق بعد عام 2003، ومساعدتها العراقيين بالتصدي للإرهاب الداعشي التكفيري في صيف عام 2014، كانت مسيرة العلاقات والروابط بين بغداد وطهران تترسخ أكثر فأكثر، وتتحدد وتتبلور مساراتها الصحيحة والصائبة، وتنعكس مصاديقها العملية على أرض الواقع.
ومن دون أدنى شك، فإن الكثيرين حينما ينظرون بعمق وموضوعية إلى الثورة الإيرانية وهي تدخل عامها الخامس والأربعين، لا بد أن يتوقفوا عند عدة حقائق، منها:
-أن تلك الثورة استطاعت مواجهة تحديات كبيرة وخطيرة وتجاوزها طيلة أعوامها الـ44، من حروب عسكرية، وضغوط سياسية، وعقوبات اقتصادية، وتشويه إعلامي، ونجحت في البقاء والصمود، بل وأكثر من ذلك، اكتساب مزيد من نقاط القوة والعزة والكرامة وعناصرها ومقوماتها.
-تمكنت من بناء نظام سياسي متميز، يختلف في كثير من خصوصياته وسماته عن الأنظمة السياسية القائمة في المحيط الإقليمي، وفي عموم المجتمع الدولي.
- أنها زاوجت، وبقدر كبير من النجاح، بين آليات المفاهيم السياسية المعاصرة ومناهجها وسياقاتها، كالديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وحرية التعبير والعمل السياسي، وبين قيَم الدين الإسلامي ومبادئه التي شكلت هويتها الأساسية.
-استطاعت التوفيق بين الثوابت الوطنية والدينية ومصداقية الشعارات التي رفعتها وتبنّتها من جهة، وبين المصالح السياسية والاقتصادية التي يفرض الواقع الاهتمام بها وعدم إهمالها في ظل بيئة إقليمية ودولية لا تحتمل انعزال وانكفاء أي من مكوّناتها، من جهة أخرى.
وبينما راهن الغربيون وحلفاؤهم في المنطقة على إطاحة الثورة والنظام الإسلامي المنبثق عنها خلال أسابيع أو شهور في أقصى تقدير، عبر الحرب العسكرية التي شنها نظام حزب البعث بعد نحو عام ونصف العام من الانتصار، فإن تلك الحرب طالت أكثر بكثير مما كان مخططاً لها، وخلال ثمانية أعوام تبدلت موازين القوى والمعادلات، لتضع الحرب أوزارها، وتشرع إيران في عملية بناء وإصلاح على كل الصعد والمستويات.
وخلافاً لمجمل التوقعات، لم تتجه إيران إلى نزعة الثأر والانتقام وتصفية الحسابات مع النظام العراقي بعد غزوه دولة الكويت وهزيمته فيما بعد وتعرضه إلى العزلة والحصار، بل استمرت بتبني سياسات متوازنة، وتمسكت بمواقفها المبدئية حيال الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية والإقليمية المتحالفة معها والداعمة لها. والشيء نفسه تقريباً حصل إزاء الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية في عام 2003 وانتهت إلى إطاحة نظام صدام حسين واحتلال العراق.
الحقبة الزمنية بين انتصار الثورة في شباط/فبراير عام 1979 وحتى سقوط نظام صدام حسين في نيسان/أبريل عام 2003، مختلفة عما بعدها، في إطار العلاقات العراقية-الإيرانية، إذ إن زوال النظام في بغداد مهّد الطريق لتصحيح المسارات الخاطئة، وحلّ القضايا والملفات الخلافية بين الطرفين ومعالجتها، والتوجّه إلى بناء علاقات قوية ورصينة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية وفق رؤية استراتيجية عميقة تأخذ في الاعتبار المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة بين بغداد وطهران، والحقائق والمعطيات القائمة في المنطقة والعالم.
وثمة أمر مهم للغاية هو أن إيران كانت الدولة الأكثر انفتاحاً على العراق بعد زوال نظام صدام، ووقفت إلى جانبه في الظروف الصعبة والمنعطفات الحرجة، لا سيما بعدما اجتاح تنظيم "داعش" الإرهابي مساحات واسعة من أراضيه في حزيران/يونيو 2014. فضلاً عن ذلك، فإن العلاقات والروابط الاقتصادية بين البلدين تنامت هي الأخرى إلى حد كبير، وكذلك العلاقات والروابط الثقافية والاجتماعية.
ومن الطبيعي جداً أن يثير كل ذلك حفيظة واستياء وقلق واشنطن و"تل أبيب" وحلفائهما وأصدقائهما، لذا تحوّل العراق إلى بؤرة استهداف أميركية -إسرائيلية بطرق وأشكال ووسائل وأساليب مختلفة، باعتباره طرفاً أساسياً ضمن محور أو جبهة المقاومة. وذلك ليس ببعيد عن الأجندات والمخططات التي تحاك له، والتي يراد من ورائها إبعاده عن إيران ومحور المقاومة. إذ إن الاستراتيجية الأميركية تقوم على أساس ضرب حلفاء إيران وأصدقائها وإضعافهم في أي مكان، في الوقت عينه، تواصل ضغوطها السياسية والاقتصادية عليها. ولعلّ بعضاً مما يجري في العراق من وقائع وأحداث يعكس جانباً من تلك الاستراتيجية.
وإذا لم يكن بإمكان العراقيين أن يتحدثوا علانية عن الثورة ويعبّروا عن آرائهم بها في عهد نظام صدام، حيث يتعرض من يشير إليها أدنى إشارة إيجابية لأقسى أنواع العقوبات، التي غالباً ما تصل إلى فقدانه حياته، فإنه بعد سقوط ذلك النظام، تغيّرت الظروف والأحوال، وأتاحت فسحة الحرية للعراقيين التعبير عن آرائهم وتوجّهاتهم ومواقفهم حيال مختلف القضايا، منها الثورة الإسلامية الإيرانية.
لذلك، وجدنا أنه طيلة العقدين الماضيين، لم تغب مظاهر إحياء الذكرى السنوية لانتصار الثورة، وكذلك إحياء ذكرى رحيل الإمام الخميني، عن الشارع العراقي والأوساط والمحافل السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية والإعلامية العراقية، بالقدر نفسه الذي كانت مسيرة العلاقات بين البلدين تشهد تطوراً وتنامياً متواصلاً في شتى الجوانب والمجالات.
فالآن، صورة الثورة والدولة الإيرانية الإمام الخميني، في العراق مختلفة تمام الاختلاف عن صورة عام 1979. صورة الحاضر آفاقها رحبة وألوانها مشرقة، في حين كانت كل معالم صورة الماضي وملامحها وخطوطها وألوانها تؤشر إلى مؤامرات وحروب ومآسٍ وكوارث وويلات.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.