الإمام الخميني بعد 32 عاماً على الرحيل.. حضور دائم.
في مسيرة البشريّة الممتدّة إلى حقب وقرون طويلة، تبرز أسماء مهمَّة كان لها دور كبير في إحداث تحولات كبرى وصنع وقائع ساهمت في تغيير مسار التاريخ عند مراحل ومحطات مفصلية شاخصة. ولا شكّ في أنّ مفجّر الثورة الإسلامية في إيران وقائدها الإمام الخميني (قدس سره الشريف)، يعدّ واحداً من أبرز الشخصيات التي أسهمت في إيجاد نهضة إنسانية عالمية في التاريخ المعاصر، عبر حركة جهادية بعناوين ومظاهر متعدّدة امتدّت إلى ما يقارب 6 أو 7 عقود من الزمن.
لم يكن الإمام الراحل مجرَّد زعيم سياسيّ هدفه الوصول إلى السّلطة والحكم، بقدر ما كان مصلحاً عالمياً كبيراً، قاد مشروعاً شاملاً للتغيير والإصلاح. وما زال هذا المشروع متواصلاً، رغم مرور أكثر من 3 عقود على رحيل قائده. وكان العنوان الأبرز والأوضح لمشروع الإمام الخميني الإصلاحي هو الثورة الإسلامية.
من الطبيعي أنَّ تحليل ماهية المفردات والمفاهيم التي جاءت بها تلك الثورة، وإجراء مقاربات بينها وبين مفردات ومفاهيم منظومات ثقافية وفكرية أخرى، يمكن أن يساهما في بيان الجانب الآخر من صورتها، والذي لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية للذين كانوا يراقبون التفاعلات من بعيد، ولم تتَح لهم الفرصة للاقتراب من مسرح الأحداث، إذ إنَّ فكر الإمام الخميني وشخصيته ساهما إلى حد كبير في بيان صورة الواقع بدقّة ووضوح.
إنَّ المتابع أو الباحث لا يمكنه أن يقف على حقائق الثورة الإيرانية ويشخّصها بدقّة ما لم يتوقّف عند الخطاب المتعدّد الأبعاد والجوانب الَّذي تبنّاه الإمام الخميني منذ الانطلاقة الحقيقية لحركته الشاملة باتجاه التغيير في العام 1963 وحتى وفاته في العام 1989؛ ذلك الخطاب الَّذي شكَّل ثوابت النظام السياسي الإسلامي في إيران ومبادئه، والإطار العام لمنهج محور أو جبهة المقاومة، وهو ما يعني أنه لا يمكن بأيّ حال الفصل بين الثورة وظروف انتصارها والتحديات التي واجهتها في شتى مراحلها، وأن الإمام الخميني كقائد ومرجع وصانع حدث تاريخي كبير، لم يتوقَّف دوره وحضوره وتأثيره حتى بعد رحيله.
إنَّ مجريات الأمور والأحداث والوقائع التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب المفروضة بين العامين 1980-1988، وما بعد رحيل الإمام الخميني، أثبتت أيضاً خطأ كثير من القراءات السطحية التي ذهبت إلى أنَّ مرحلة الثورة انطوت صفحاتها وبدأت مرحلة الدولة، وهو ما يستدعي - بحسب تلك القراءات السطحية - حصول جملة متغيرات على صعيد الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، من بينها اضمحلال وذوبان ثقافة الجهاد والحرب والاستشهاد، ارتباطاً بنهاية الحرب وغياب الرمز الأول، وكذلك طبيعة التحولات والمتغيرات العالمية بعناوينها ومظاهرها المختلفة، التي كان لا بدّ من أن تدفع إيران إلى الانفتاح أكثر على الآخرين، سواء في المحيط الإقليمي أو عموم الفضاء الدولي. وهكذا مع قضايا وملفات أخرى.
لقد أرسى الإمام الراحل أسس النظام الإسلامي ودعائمه ومرتكزاته وفق رؤية عميقة وصائبة ودقيقة. لذا، من الطبيعي أن تكون ذكرى غيابه بمثابة فرصة ومناسبة للتشديد على ثوابت الثورة والنظام والدولة ومبادئها، وهو ما يبدو واضحاً وجلياً إلى حدّ كبير في مختلف أحداث المشهد الإيراني العام ووقائعه وتفاعلاته، ولا سيّما تلك المتعلّقة بترسيخ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وتكريسه.
إلى جانب ذلك، إنَّ شموليَّة شخصيّة الإمام الخميني وعالميّتها جعلته دائم التأثير والحضور في المشهد العالمي، بأبعاده السياسية والفكرية والثقافية والإنسانية، كما جعلته ملهماً للكثيرين، حتى أتباع الديانات الأخرى غير الإسلامية وأصحاب الأفكار والنظريات والآراء البعيدة عن الفكر الإسلامي.
وفي هذا السّياق، يصف القسّ المسيحيّ الماروني يوحنا عقيقي مفجّرَ الثورة الإسلامية في إيران الإمامَ الخميني بأنه "كان عنصراً فاعلاً ومؤثراً للغاية، وشخصيَّة بارزة صانعة للتاريخ. وقد استطاع أن يغيّر مخطّطات الجغرافيا السياسيّة المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط... ولم يحيِ البعد الروحي فحسب، بل والبعد الإنساني أيضاً، وليس للشعب الإيراني وحده، وإنما للإنسانية بأسرها أيضاً، أينما وجدت".
هذا الوصف العميق والدّقيق يختزل الكثير من الشرح والتحليل لمختلف الأبعاد والجوانب التي تتميز بها شخصيّة قائد تاريخي كبير مثل الإمام الخميني وسيرته ومسيرته. ولم يبتعد كثيراً عن ذلك الشخص الذي قال في الإمام إنه "يعد المثل الأعلى للإنسانية للوصول إلى العزة والكرامة والاعتزاز، إذ إنه أوجد دافعاً وحافزاً قوياً لدى المسلمين في مختلف أنحاء العالم. هذا الحافز والدافع القوي أشعل ضياء الصّحوة الإسلامية في العديد من البلدان التي كانت خاضعة للاستكبار والاستعمار العالمي، والتي عاشت تحت سطوة الجبابرة أعواماً طويلة من الزمن".
لم تتجلَّ عظمة الإمام الخميني في أدواره ومواقفه السياسية والجهادية فحسب، وإنما تجلَّت أيضاً من خلال مكانته الفكرية التي ترجمتها عشرات المؤلّفات القيمة في مختلف الجوانب الدينية والفكرية والثقافية والسياسية، والتي جعلته دائم الحضور حتى بعد رحيله في مختلف ميادين العلم والمعرفة، إذ يضمّ أرشيف مؤسَّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني في الوقت الحاضر 1126 خطاباً للإمام، و470 حكماً، و367 رسالة موجّهة إلى شخصيات سياسية ودينية أجنبية، و420 رسالة موجّهة إلى شخصيات إيرانية، و350 بياناً.
كما أنَّ المجموعة المؤلّفة من 22 جزءاً تحت عنوان "صحيفة النور"، يُضافُ إليها كتاب "مفتاح الصحيفة" - وهو فهرس لأجزائها الاثنين والعشرين – هي المجموعة الشاملة التي صدرت حتى الآن، والتي تضمّ أحاديث الإمام الخميني وبياناته وأحكامه ورسائله.
بعد 32 عاماً على الرحيل، يستشعر المرء أنَّ الإمام الخميني ما زال - وسيبقى - حاضراً بقوَّة بجهاده وفكره ومنهجه وبساطته وحجم الإنجازات التي تحقَّقت على يديه، وهو ما يؤكّده الواقع. كما أنّ قوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية والنهضة الإسلامية العالمية ومكانتها من أبرز المصاديق على الحضور الدائم والتأثير المتواصل للإمام الراحل.