"المشرق الجديد" والمسارات القلقة في بيئة مضطربة
"المشرق الجديد" مفردة أخرى تدخل قاموس الأدبيات السياسية، في ظل مشهد إقليمي ودولي مرتبك ومضطرب إلى حد كبير، تتداخل فيه المصالح، وتتشابك الأجندات، وتتقاطع المشاريع.
هذه المرة، بدلاً من أن تتلقى بغداد أصداء المشاريع والأطروحات السياسية المختلفة وتفاعلاتها وتداعياتها، من قبيل "صفقة القرن" والاتفاق الإبراهيمي والتطبيع، كانت مصدر انطلاق ما أطلق عليه اسم "المشرق الجديد"، ارتباطاً بحراك إقليمي بدأ قبل حوالى عامين، وتحديداً في شهر آذار/مارس 2019، بقمة ثلاثية في العاصمة المصرية القاهرة، جمعت كلاً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والملك الأردني عبد الله الثاني، تبعتها قمة مماثلة في نيويورك في شهر أيلول/سبتمبر من العام نفسه، على هامش اجتماعات الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، ومن ثم قمة ثلاثية في العاصمة الأردنية عمّان في شهر آب/أغسطس من العام الماضي 2020.
وكان مقرراً أن تحتضن بغداد في السابع والعشرين من شهر آذار/مارس الماضي القمة الرابعة، إلا أنها تأجلت حتى إشعار آخر، بسبب انشغال الرئيس المصري بتداعيات حادث تصادم قطارين في مدينة سوهاج، وقضية باخرة (Ever green) التي علقت في قناة السويس وأدت إلى تعطل حركة الملاحة فيها، ليصار إلى عقد اجتماع تحضيري على مستوى وزراء الخارجية، بينما كان الكاظمي يتهيأ للتوجه إلى المملكة العربية السعودية، تلبية لدعوة رسمية تلقاها مؤخراً من الملك سلمان بن عبد العزيز.
ويبدو أن الرياض، بحسب أوساط مطلعة على كواليس حراك الحكومة، كانت راغبة جداً في أن تسبق زيارة الكاظمي إليها لقاء القمة مع السيسي وعبد الله، كما يبدو أن الكاظمي كان يحمل الرغبة نفسها. وقد جاءت الحوادث المفاجئة في مصر لتترجم رغبات الطرفين إلى واقع عملي على الأرض. وتذهب تلك الأوساط إلى أن الرياض لا تريد أن يتشكل محور إقليمي بعيداً منها، وإن لم يكن معادياً لها أو يقف ضد مصالحها.
لذلك، لوحظ أن الزيارة السريعة والمفاجئة للكاظمي أسفرت عن إبرام جملة اتفاقيات ومذكرات تفاهم في مجالات مختلفة بين الجانبين السعودي والعراقي، وهي إشارة ضمنية إلى أن الثقل الاقتصادي للرياض بالنسبة إلى بغداد أكبر بكثير من الثقل الاقتصادي لكل من عمّان والقاهرة مجتمعتين.
أضف إلى ذلك أن الرياض يمكن أن تفكر في أن وجودها وحضورها في محور إقليمي تعد بغداد جزءاً منه، من شأنه تخفيف الضغط عنها، بسبب تورطها في ملفات إقليمية شائكة ومعقدة في اليمن وسوريا وغيرهما، ناهيك بسعيها المحموم لإضعاف خصمها التقليدي طهران ومحاصرته، والسعي إلى وضع بغداد على سكة التطبيع مع الكيان الصهيوني، لتلتحق بالقاهرة وعمّان وأبو ظبي والمنامة والخرطوم والرباط والرياض.
ولا شك في أن مفهوم أو مصطلح "المشرق الجديد" يحاكي مصطلح "الشرق الأوسط الكبير" الذي طرح قبل بضعة أعوام، لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة بطريقة مختلفة تفضي إلى ضمان مصالح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وأصدقائها الكبار والصغار. في الواقع، هذا ما يراه بعض الساسة والمراقبين والمتتبعين لتفاعلات الوقائع والأحداث في المنطقة، في الوقت الذي لم يتبلور شيء واضح حتى الآن.
للعلم، إن أول من طرح مفهوم "المشرق الجديد" هو رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي عند زيارته الولايات المتحدة الأميركية في آب/أغسطس 2020. وقد عاد ليكرر ما تحدث به في واشنطن في القمة الثلاثية في عمّان.
وقبيل انعقاد قمة بغداد، قال: "إن المشرق الجديد ليس تحالفاً سياسياً، بل هو مشروع اقتصادي اجتماعي بين شعوب الدول المعنية يستهدف تحقيق المصالح المشتركة"، بيد أن معطيات الحال وعموم التجارب تؤكد أن كل المشاريع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية لا يمكن أن تنطلق، ومن ثم تترسخ وتدوم، ما لم تتوفر لها أطر ومناخات وتفاهمات وتوافقات سياسية بمستوى معقول ومقبول.
إن "المشرق الجديد" الذي يكتنفه الغموض وتحيط به الكثير من التساؤلات والاستفهامات، من غير الممكن أن يكتب له النجاح، سواء طرح كمبادرة أو كمشروع اقتصادي واجتماعي وخارطة طريق للإصلاح والتفاهم الإقليمي، لأن هناك أطرافاً إقليمية أكثر تأثيراً وحضوراً وأدواراً في خارطة الأحداث، ولأن الأطراف الثلاثة، وإن كانت نواة لذلك المشروع، ابتليت بكمّ كبير من المشاكل والأزمات والتحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهي تحتاج إلى من يأخذ بيدها، وليس العكس، فضلاً عن كون بعضها منخرطاً في الأساس في مشاريع ومحاور إقليمية مقابل مشاريع ومحاور إقليمية أخرى.
وفي ما يتعلق بالعراق، فإن انفتاحه على محيطه الإقليمي والفضاء الدولي يشكل أولوية مهمة يفرضها تداخل المصالح وتشابك الملفات والقضايا السياسية والأمنية والسياسية المختلفة. وإذا كانت الاجتماعات الأخيرة لوزراء خارجية العراق والأردن ومصر في العاصمة بغداد، والقمة الثلاثية المرتقبة، ومبادرة "المشرق الجديد"، تأتي في هذا الإطار، فإن على صانع القرار السياسي العراقي الالتفات إلى جملة من المسائل، وأخذها بعين الاعتبار عند اتخاذ أي خطوات، والإقدام على أي مبادرات نحو المحيط الإقليمي أو الفضاء الدولي.
ومن هذه المسائل، التوازن في عملية الانفتاح على الآخرين، وتجنب الدخول في اصطفافات ومحاور يمكن أن تجعل العراق أداة وساحة لتصفية الحسابات وتمرير المصالح الخاصة. وكذلك، لا بد أن تكون المصلحة الوطنية في نصب عين المفاوض العراقي، واعتبارها من الثوابت التي لا يمكن ولا يجوز الحياد عنها بأي حال من الأحوال.
إلى جانب ذلك، إن كل خطوة من خطوات عملية الانفتاح ينبغي أن تخضع لدراسات وتقييمات موضوعية دقيقة، للوقوف على منافعها ومكاسبها بالنسبة إلى البلاد، سواء كانت تلك المنافع والمكاسب اقتصادية أو أمنية أو سياسية. ومن غير المنطقي والمقبول أن تكون منافع ومكاسب الآخر أكثر مما قد يحققه العراق منها.
صحيح أن تعزيز العلاقات والروابط مع دول مثل الأردن ومصر هو أمر ينطوي على جملة من الإيجابيات، لكن من غير الصحيح أن يتركز الاهتمام في هذا الاتجاه على حساب علاقات وروابط مع أطراف دولية وإقليمية أخرى، كالصين وإيران وتركيا وروسيا، على سبيل المثال لا الحصر، والتي من شأنها أن تحدث نقلات نوعية كبيرة في الواقع العام للبلاد.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى الاتفاقية العراقية الصينية التي أبرمت في العام 2019، أي قبل حوالى عامين، من دون أن يتم تفعيلها وترجمتها على أرض الواقع لأسباب غامضة، علماً أن تلك الاتفاقية تنطوي على أهمية كبيرة جداً بالنسبة إلى العراق.
المسألة الأخرى التي لا تقل أهمية عن سواها من المسائل الآنفة الذكر، هي ضرورة إطلاع الرأي العام العراقي بكل اتجاهاته وتوجهاته على مجمل مسارات ومعطيات المباحثات واللقاءات والاتفاقيات مع الأردن ومصر وغيرهما من الدول، وماهية ما يطرح من مبادرات ومشاريع، حتى يعرف ويفهم انعكاساتها ومخرجاتها الآنية والمستقبلية عليه.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً