قبل 2 سنە
عادل الجبوري
236 قراءة

حماقات العسكر التركيّ العابرة للحدود!

رغم أنَّ القصف التركي الأخير لأحد المنتجعات السياحية في قضاء زاخو التابع لمحافظة دهوك في شمال العراق، والذي تسبّب بمقتل وإصابة عدد غير قليل من المواطنين المدنيين، قوبل بردود أفعال شعبية وسياسية غاضبة ومستنكرة ومنددة على مختلف الأصعدة والمستويات المحلية والإقليمية والدولية، فإنَّ تركيا لم تتردد في خضم التداعيات السريعة لذلك، وبعد وقت قصير من مجزرة زاخو، في قصف مناطق أخرى بذريعة ملاحقة حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK).

يبدو أنّ صنّاع القرار في أنقرة أرادوا أن يوصلوا رسالة متعددة المضامين والأبعاد في وقت واحد، تتمثل بعض مضامينها وأبعادها بأن الأجواء الشعبية المحتقنة، والمواقف السياسية العراقية وغير العراقية ضد تركيا، لم ولن تربكها أو تضعفها. 

وكذلك، إنَّ خطط تركيا وإجراءاتها الأمنية والعسكرية لحماية أمنها القومي قائمة وسائرة كما هو مرسوم لها، وإن حصلت "أخطاء بسيطة"، كالقصف الَّذي وقع على مصيف برخ في قضاء زاخو، وأزهق أرواح المدنيين الأبرياء، وسفك دماءهم. 

أيضاً، إن تقدير صناع القرار التركي بأن تشابك وتداخل المصالح مع العراق ومختلف الأطراف الأخرى التي نددت بما جرى واستنكرته يجعل أنقرة في موقف ووضع قوي لا تهزّه أحداث عابرة هنا وهناك.

ولعلَّ مجمل تعاطي وسائل الإعلام التركية، ولا سيما المحسوبة على الحزب الحاكم أو القريبة منه، تمحور حول هذه المضامين والأبعاد. فضلاً عن ذلك، إنَّ بعض التسريبات من داخل الدوائر السياسية والعسكرية التركية العليا ذهبت إلى أن الرؤية المشتركة لرجال السياسة والعسكر التركي لم تذهب بعيداً من ذلك.

ولكن الأمور كانت هذه المرة مختلفة عن سابقاتها إلى حد كبير، فالقصف التركي، سواء حدث بواسطة الطائرات أو المدافع الثقيلة، استهدف موقعاً ترفيهياً مدنياً بعيداً جداً من أي ثكنات أو تجمعات لعناصر حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK)، وأدى إلى مقتل مدنيين، بينهم أطفال ونساء، أغلبهم أو جميعهم من محافظات الوسط والجنوب. وارتباطاً بذلك، فإنَّ ردود الأفعال الشعبية والسياسية جاءت متناسبة من حيث شدتها وحدتها وسعتها ووضوحها مع حجم الجريمة وثقلها وبشاعتها ودمويّتها.

 شعبياً، أدى الغضب الجماهيري إلى تعليق عمل القنصليات التركية ومكاتب منح تأشيرات الدخول إلى تركيا في كل من بغداد والبصرة، وإلى امتناع العديد من الأسواق والمراكز التجارية عن بيع السلع والبضائع التركية وتداولها، وارتفاع الأصوات المطالبة بإغلاق الشركات التركية العاملة في العراق، وأكثر من ذلك طردها من البلاد، ناهيك بقيام مجاميع غاضبة بإنزال العلم التركي من مباني القنصليات وإحراقه.

أما على الصعيد السياسي، فإنَّ مساحة الرفض والتنديد والاستنكار العراقي والإقليمي والدولي بدت كبيرة وواسعة جداً مقارنة بتجاوزات واعتداءات وانتهاكات تركية سابقة للسيادة الوطنية العراقية.

ولم تقتصر الخطوات والإجراءات السياسية العراقية على استدعاء السفير التركي في بغداد علي رضا غوناي إلى وزارة الخارجية وتسليمه مذكرة احتجاج شديدة اللهجة، بل إنَّ رؤساء السلطات الثلاث -التنفيذية والتشريعية والقضائية- وزعماء الأحزاب والقوى السياسية ورؤساء الكتل البرلمانية، أكدوا في اجتماع استثنائي دعا إليه رئيس مجلس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي "وحدة الموقف الوطني العراقي في حماية سيادة العراق وأرواح العراقيين، وإدانة الاعتداء التركي، فضلاً عن دعم الإجراءات الرامية إلى تقديم الشكوى الدولية".

 في الوقت ذاته، جدد المجتمعون التأكيد على "احترام العراق لمبادئ حسن الجوار، ومنع الاعتداء على أراضي الدول المجاورة انطلاقاً من أراضيه، ورفضه أن يكون ساحة لتصفية الحسابات بين جماعات مسلحة غير شرعية والجيش التركي، أو تصدير الأزمات الداخلية للآخرين، أو الاعتداء على حقوقه وسيادته وأمن شعبه".

وشدد المجتمعون أيضاً على "تماسك الموقفين السياسي والشعبي إزاء التحديات"، مطالبين الحكومة بـ"اتخاذ كل الإجراءات والخطوات اللازمة لحماية أمن العراق وسيادته، ومنع تكرار الاعتداءات".

بالفعل، سارعت الخارجية العراقية إلى تقديم شكوى دولية لمجلس الأمن الدولي للنظر في الاعتداءات التركية، بعد أن أصدرت بياناً قالت فيه: "جميع المؤشرات تؤكد مسؤولية تركيا عن الاعتداء، وإنكارها يمثل مزحة سوداء. بدأنا بإجراءات فاعلة في مجلس الأمن، إذ تحركنا لطلب عقد جلسة خاصة للمجلس لبحث الجريمة واستصدار قرار دولي. وقد اتخذنا الآن أقصى القواعد الإجرائية الممكنة ضمن العمل الدبلوماسي، ومن المحتمل أن يتم اللجوء إلى الورقة الاقتصادية".

 وفي وقت لاحق، كشفت الخارجية العراقية بعض مضمون رسالة الحكومة إلى مجلس الأمن، إذ قال المتحدث الرسمي باسمها أحمد الصحاف في إيجاز صحافي: "الرسالة التي وجهها العراق إلى مجلس الأمن تضمنت جملة من الموضوعات، أبرزها أعداد الخروقات التي طالت السيادة منذ عام 2018، إذ وثقنا فيها أكثر من 22 ألفاً و740 خرقاً تركياً، وأحصينا أعداد المذكرات والشكاوى التي قدمتها الحكومة العراقية للجانب التركي، البالغ عددها 296 شكوى".

وأضاف الصحاف: "الرسالة تضمنت أيضاً إطلاع مجلس الأمن على طبيعة المخاطر التي ينطوي عليها الاعتداء الأخير، والذي وصل إلى المدن الآهلة بالسكان داخل الأراضي العراقية"، لافتاً إلى أن "هذه الاعتداءات تنطوي على مخاطر تتعلق بجهود مكافحة الإرهاب".

وبحسب المسؤول الحكومي، "أشفعت الرسالة بأسماء الشهداء والجرحى خلال الاعتداء الأخير"، مؤكداً "أنَّ لدى تركيا أغراضاً توسعية وراء الاعتداءات التي تقوم بها، ولا توجد أي اتفاقية أمنية أو عسكرية مع الجانب التركي". وقبل ذلك، تم استدعاء القائم بالأعمال العراقي في أنقرة لغرض التشاور، وكنوع من التعبير عن الاستنكار والاحتجاج إزاء ما حصل.

إلى جانب ذلك، فإنَّ مجلس النواب العراقي خرج خلال جلسته الطارئة في 22 تموز/يوليو الجاري، بقرارات متوافقة مع قرارات السلطة التنفيذية وخطواتها، وشكّل لجاناً لمتابعة تفاصيل القصف التركي، تعمل بالتوازي والتنسيق مع اللجان الحكومية المشكلة لهذا الغرض.

 ليس هذا فحسب، بل إنَّ رئيس أركان الجيش العراقي الفريق الركن عبد الأمير يار الله جدد الدعوة إلى إرسال قوات من الجيش العراقي والبشمركة الكردية إلى المناطق الحدودية مع تركيا، للإمساك بالمناطق الفارغة من قوات حرس الحدود، ليجبروا الأتراك على ترك نقاطهم وعدم إعطائهم فرصة للتقدم أو نشر المدفعية، وبالتالي إيقاع الخسائر بالمواطنين.

 وأضاف القائد العسكري العراقي خلال جلسة البرلمان الاستثنائية: "هناك 376 كيلومتراً، تقل أو تكثر، تفصل بيننا وبين تركيا ضمن حدود إقليم كردستان، ما معناه أننا كوزارة دفاع ليست لنا سلطة، ولا يوجد لنا جنود في هذه المنطقة، وحتى إذا أردنا أن نذهب، فيجب أن نأخذ موافقات رسمية".

وكشف الفريق يار الله عن وجود 5 قواعد عسكرية تركية على الأراضي العراقية تضم 4 آلاف عسكري، وأن عدد نقاط الجيش التركي بلغت حتى الآن 100 نقطة في داخل العراق، بعدما كان 40 نقطة فقط عام 2021، علماً أنّ هناك تقارير من مصادر مختلفة تذكر أعداداً أكبر بكثير عن حجم الوجود العسكري والاستخباراتي التركي في شمال العراق الذي وصل إلى قلب الموصل وتخوم كركوك.

 هذا الوجود العسكري غير الشرعي الكثيف بات اليوم في مرمى الاستهداف بالصواريخ والطائرات المسيّرة، كجزء من ردود الأفعال على الاعتداءات والتجاوزات التركية المتواصلة والمتصاعدة.

 على الصعيد الدولي، إنَّ بيان الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي دان فيه القصف التركي، ودعا إلى "إجراء تحقيق دولي شامل للوقوف على كل ملابساته وضمان مساءلة مرتكبي الهجوم"، شكل مؤشراً مهماً للغاية لا يصب في مصلحة أنقرة.

وقد تعزز ذلك في وقت لاحق بإعلان مجلس الأمن الدولي عقده جلسة طارئة في 26 تموز/آب الجاري، لبحث الاعتداءات التركية على العراق ومناقشتها بناء على طلب وزارة الخارجية العراقية.

 وبصرف النظر عن المخرجات العملية لمثل تلك الخطوات والقرارات، فهي في واقع الأمر لا تخلو من أبعاد ودلالات سياسية مهمة لا يمكن للأطراف المعنية إهمالها وغض الطرف عنها تماماً، ولا سيما أنقرة.

في خضمّ كل هذه التفاعلات والتداعيات المتسارعة للقصف التركي، فإن نفي أنقرة مسؤوليتها عما حصل، وتوجيهها أصابع الاتهام إلى جماعات إرهابية مسلحة، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني المعارض، لم يكن له أن يصمد أمام كمّ الحقائق والأرقام والمعطيات التي تثبت بما لا يقبل الشكّ أن الجيش التركي هو المتورط في ارتكاب جريمة مصيف برخ. 

ولا شك في أن مجمل المؤشرات تؤكد أنه لم يعد ممكناً بالنسبة إلى أنقرة التعاطي بالآليات السابقة نفسها مع ردود الأفعال العراقية، لأن الجريمة هذه المرة كانت أكبر وأفظع، والخسائر والاستحقاقات المترتبة عليها لن تكون عابرة وغير ذات أهمية، وحجم التبادل التجاري السنوي بين العراق وتركيا، الذي تجاوز عتبة 20 مليار دولار قبل عامين، ربما يكون مهدداً بالتراجع الحاد، فيما كانت أنقرة تعبر باستمرار عن سعيها الجاد لرفعه إلى 50 مليار دولار في غضون الأعوام الخمسة المقبلة.

وإذا بات الاقتصاد يشكل مفتاح العلاقات الرصينة بين مختلف الشعوب والمجتمعات في عالم اليوم، فإنَّ حماقات العسكر التركي ونزعات المنظومة السياسية في أنقرة وطموحاتها لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية بعد 100 عام على انهيارها واضمحلالها، لن تدفع الاقتصاد التركي المضطرب إلى آفاق رحبة، إنما سوف تحشره في أنفاق مظلمة، وعلى إردوغان ورجاله من العسكر أن يتحسبوا للأسوأ بعد جريمة مصيف برخ، وأن لا يطمئنوا أنفسهم ويمنّوها بالأفضل!

 

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP