قبل 4 سنە
حميد لشهب
377 قراءة

جذور الاستكبار الفرنسي تجاه المسلمين

نحاول في هذا النصّ إجراء قراءة هادئة ومتأنّية، وبتركيز كبير جداً، للجذور العميقة للاستكبار الفرنسي تجاه المسلمين منذ بدايات الاكتشافات الجغرافية والمرحلة الاستعمارية/الإمبريالية وعصرنا الحالي. هناك كراهية فعلية لفرنسا تجاه المسلمين ستنقشع ونحن بصدد الحديث عما اقترفته بطريقة وحشية لاإنسانية، ومن دون اعتبار لأي معايير أخلاقية أو سياسية، ضاربة بعرض الحائط المبادئ التي توهم العالم بأنها ثمرة ثورتها. والواقع أنّ ما حصل كان برنامجاً متكامل الأطراف لبناء ثورة فرنسا على حساب الضعفاء من شعبها وكل الشعوب الضعيفة التي استعمرتها. 

وبما أنّ الموضوع شاسع ويستحق العمل عليه كأطروحة جامعية، فإننا سنبحث في مجموعة صغيرة من هذه الجذور، كنموذج يُسهل فهم الغضب العارم للشعوب المسلمة في كلّ مرة تهاجم فرنسا المسلمين.

بدأ الاستشراق كمشروع "علمي" يخدم المشروع الاستعماري الأوروبي في سنوات الاكتشافات الجغرافية، التي بدأت بالظهور تدريجياً في أواسط القرن الخامس عشر. ولم يكن المكتشفون رحالة راغبين في المغامرة والتعرف إلى ثقافات وحضارات وآدميين آخرين، بل كانوا أشبه ما يكون بموظفين للدول الاستعمارية، لأنَّ رحلاتهم كانت تُموَّل وتُحمى عسكرياً من طرف هذه الدول.

إحدى الوسائل التي كانوا يلجأون إليها لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات هي التجسّس على القبائل والدول التي يمرون بها في ما سمي "الجغرافيا التجسسية". وعندما تيقَّنت فرنسا من سيطرتها في غرب أفريقيا، أصبح التجسس منهجاً رسمياً استعملته للتجسس على العلماء والأئمة المسلمين، في ما يمكن تسميته "شرطة خاصة بالمسلمين"، لفتح المجال "للمبشرين المسيحيين" لنشر دينهم، ليس بحد السيف، بل باستعمال البارود والمدافع.

إذا كانت حركات الاكتشافات الجغرافيَّة قد أوصلت الاستعمار إلى مرافئ الدول المُستَعمَرة، وفتحت لفرنسا مثلاً أبواب أفريقيا وبلاد الشام على مصراعيها، فإنَّ الدراسات الاستشراقيّة الاجتماعيّة (وخصوصاً الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا)، تمثّل البنية الفكرية للاستعمار. أسّست فرنسا "مدرسة اللغات الشرقية الحيّة" في العام 1795، وكانت في العمق نواة "المدرسة الاستشراقية الفرنسية"، تحت رئاسة "دي ساسي Antoine-Isaac, Baron Silvestre de Sacy".

نشط الاستشراق الفرنسي بطريقة ملحوظة بعد حملة نابليون على مصر وصدور كتاب "وصف مصر". وتكثَّف اهتمام الاستشراق الفرنسي بمستعمراته المسلمة في بداية ما سُمي "البعثات الطلابية" للمسلمين نحو فرنسا وتركيا وإيران والمغرب. وتوجد في فرنسا حالياً العديد من المراكز الاستشراقية في جامعات السوربون وليون ومارسيليا وإيكس أون بروفانس وغيرها. 

والغريب في الأمر أنَّ هذه المراكز توظف عدداً من المغاربيين بالخصوص، الذين تشبّعوا بالإرث الثقافي الفرنسي، والذين يؤمنون بأساطير "عقلانية" هذه الثقافة و"موضوعيتها" و"علميتها"... من دون أخذ مسافة كافية تسمح لهم بوضع الأمور في سياقها الموضوعي.

كان الشغل الشاغل للأغلبية الساحقة من الأنثروبولوجيّين هو توفير المعطيات المهمة للسيطرة على الشعوب ومعرفة نقاط ضعفها وقوتها، لتسهيل عملية تدجينها والسيطرة عليها. وقد استفادت فرنسا من أنثروبولوجيتها وإثنوغرافيتها في أواخر القرن التاسع عشر، وتُوّجت هذه الاستفادة بإنشاء مدرسة الأنثروبولوجيا في باريس (1876م) ومتحف تروكاديرو للسّلالات (1878).

ولم يكن صدفة أن "تخصّصت" الأنثروبولوجيا الفرنسية في "علم الأجناس"، أي تحديد الفروق بين المجموعات في الدول التي سيطرت عليها فرنسا آنذاك، بهدف الوصول إلى نتيجة مفادها اختلاف الشّعوب في أصولها وثقافاتها، أي التمهيد لتطبيق فكرة "فرّق تسد"، كأداة سيطرة استعمارية.

وفي هذا الإطار كذلك، روج الأنثروبولوجيّون لما اصطلحوا عليه في حينه "النَّظريَّة الحامية"، القائلة إنَّ "القارة السوداء" لم تكن في يوم من الأيام ذات أهمية، لأن كلّ تطوّر حدث فيها، إنما كان من أصل سامي، وربطوا أصول مجموعات إثنية أفريقية بعينها بالسّاميين، واعتبروها بهذا أكثر ذكاء وأرفع قدراً من غيرها.

ونُذكّر هنا تحديداً بتوظيف فرنسا هذا الأمر في الجزائر والمغرب، معتبرة أن البربر أكثر تحضّراً من العرب، وأنهم أقرب إلى الأوروبيين. كما لجأت إلى الأمر نفسه في جنوب الصحراء، واعتبرت أن الطوارق من أصول شرقية يهوديّة. وبهذا، روّجت لفكرة كونهم أكثر تحضراً وأرفع منزلةً من ذوي البشرة السمراء. الشّيء نفسه حدث مع اليهود الأفارقة، الذين كانوا هدفاً للتبشير المسيحي المرافق للاستعمار الفرنسي، موهمين إياهم بأنّ هدف التنصير في صفوفهم هو إعادتهم إلى دينهم الأصلي.

من بين الميادين التي يلمس فيها المرء جذور الاستكبار الفرنسي تجاه المسلمين، حملات الهجوم الممنهجة على الإسلام إبان الحركات الاستعمارية المبكرة لفرنسا للدول المسلمة في أفريقيا والشرق الأوسط. وقد حظي الإسلام كدين بأهمية خاصة في الدِّراسات الاستشراقيَّة. وكما يمكن أن يتباذر إلى الذهن، فإن دراسة المستشرقين الفرنسيين للإسلام كانت في الغالب من أجل التقليل من أهميته الروحية، وإبراز أنه قضى على الديانات الطبيعية المحلية.

اختار الأنثروبولوجيُّون للإسلام في أفريقيا مصطلح "الإسلام الأسود"، وعُمْقُ المصطلح هو إبراز كون الإسلام في أفريقيا لا يشبه الإسلام الذي ظهر في شبه الجزيرة العربية، لأنه مُزِج بالعادات والتقاليد والديانات الأفريقية القديمة، واعتبروا ذلك اختلافاً عميقاً بين "الإسلام الأسود" و"الإسلام الأصل"، بما في ذلك فكرة وحدانية الله، إذ زعموا أن المسلم الأفريقي لم يتخلّص في باطنه من فكرة وحدة الوجود، ليكون الله إلهاً من بين آلهة آخرين يعتقد الأفارقة بهم، ومن ثم زرعوا فكرة "تعصّب الإسلام الأصل" ضد طريقة ممارسة الإسلام من طرف الأفارقة، في مقابل "إسلام أسود" متسامح، محاولين بذلك إشعال فتيل الصراع بين المسلمين الأفارقة جنوب الصحراء والشمال الأفريقي: "يا شعبَ السِّنغال، إنَّ معظمكم ورث ديانة العرب عن آبائكم، ونحن لا نعارض ذلك، وإنْ كنَّا نأسفُ له من أجل مصلحتكم. وعلى الرُّغم من ذلك، فإنَّكم لستُم مُلْزَمين بتاتاً باتِّباع العرَب في عاداتهم وتقاليدهم، وفي قِيَمهم، وفي جهالاتهم، فلا تذهبوا عند المور للبحث عن مُثُلكم ونماذجكم الفكريَّة، بل إنكم تجدونها عندنا، نحن المحبِّين للسَّلام والنِّظام"(الحاكم الفرنسيّ فيديرب في العام 1860م).

تجد جذور الاستكبار الفرنسي تجاه المسلمين تربتها الخصبة في دراسات الاستشراق وما لحقه من "علوم" إنسانية، كالأنثروبولوجيا والإثنولوجيا مثلاً، وتستعمل السماد نفسه الذي استعملته منذ قرون لتثبيت هذا الاستعلاء المتمثل في الحط من قيمة المسلمين حضارياً وثقافياً وعقائدياً، بل عملت فرنسا "العلمانية" على محاربة الإسلام في أفريقيا والشرق الأوسط باستعمال المسيحية، وتشجيع عمليات تنصير القارة الأفريقية والكثير من المناطق في منطقة الشرق الأوسط، وبناء هذا الاستكبار على "علوم" ساهمت بما فيه الكفاية في بناء وجداني ومعرفي يتسم بالعجرفة والاحتقار للإسلام والمسلمين - بما في ذلك الإسلام الفرنسي نفسه - في الوعي واللاوعي الفرنسي. 

من هنا، لا يجب أن تتأسَّس "مقاومة الإسلاموفوبيا" التي تروج لها فرنسا بعمليات انتحارية تشوه صورة الإسلام والمسلمين، بل بإعادة دراسة الاستشراق الفرنسي عامة، والبحث عن مكامن الخطر فيه، وتقديمها إلى العالم بلغات أجنبية متعددة، فهذا هو السلاح الحقيقي لمقاومة الاستكبار الفرنسي، وهو أمر يتطلب في المقام الأول إرادة سياسية مسلمة للانخراط في هذا المشروع الحضاري والثقافي مادياً ومعنوياً، والتشجيع على إنشاء معاهد لدراسة الاستشراق في الدول الغربية نفسها كخطوة أولى، في ما نسمّيه شخصياً "قلب المرآة"، ليرى الغربي نفسه، ثم القيام مع الأجيال القادمة باستشراق مضادّ في الدول الغربية - بمعنى دراسة الشرقيين للغرب - كخطوة ثانية، لمَ لا!

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق  وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP