جذور العنصرية العميقة في الفكر الغربي.
مخطئ من يعتقد بأن العمليات العنصرية الوحشية التي تحدث بانتظام في الولايات المتحدة الأميركية هي عمليات طائشة لأناس طائشين، أو أنها نتيجة وضع معين، يكون رد فعل على عمل إجرامي لرجل أسود "خطير"، يستعمل العنف في إجرامه، ولا يمتثل لأوامر الشرطة.
إن العنصرية مُؤسسة فكرياً وفلسفياً وقانونياً، أي مؤسساتياً، في نسيج الدولة الأميركية منذ تأسيسها. وكان سكان أميركا الأصليون، الهنود الحمر، أول من ذاق التطهير العرقي في أميركا الشمالية، بحيث عمل المستعمر الإنجليزي على وجه الخصوص على نشر أوبئة وفيروسات (الحصبة والجذري والتيفوس على وجه التحديد) عن قصد، لإبادة ما يمكن إبادته من السكان الأصليين في أميركا.
كما عمل عن قصد أيضاً على إجبار من لم يموتوا بهذه الأوبئة على مغادرة أراضيهم لصالح المستعمرين، والانعزال في مناطق نائية، أصبحت تُسمى عبثاً "محميات مستقلة"، في ظل فقر مقذع وضيق أفق وإدمان على الكحول، نتيجة الضغوطات التي لا زالت تمارس عليهم إلى اليوم، والتمييز العنصري الذي فُرض عليهم منذ استيلاء الأوروبيين على الأميركيتين: مُنعوا من التحدث بلغاتهم الأصلية، وارتداء زيهم التقليدي، والاحتفال بطقوسهم المعهودة.
ومن بين النتائج المباشرة لهذا الحيف العنصري هو ارتفاع نسبة الانتحار في صفوفهم، لشعورهم بالعار وتدنيس مقدساتهم وحرمانهم من هويتهم الحقيقية.
لم يكن حظ الأفارقة أفضل، بل كان أكثر بؤساً، منذ أن اقتادتهم السفن الأوروبية كعبيد في العام 1691 للعمل في مزارع المستعمر البريطاني. ومنذ ذلك الحين، وهم عُرضة للإقصاء والتمييز العنصري، بعدما أشبعهم الرجل الأبيض قتلاً وإهانة وهم عبيد، وهو أمر لم يتغيّر إلى اليوم، حتى عندما تم إلغاء الرق في أميركا الشمالية في العام 1863 وإقرار وجود قوانين تحظر التمييز العنصري.
ما يحدث في "دولة مؤسسات الحقوق والقانون"، والتي تُنعت، بخلاف كل منطق، بأنها "مثال الديموقراطية" و"حماية حقوق الأقليات"، من ممارسة ممنهجة ومُنتظمة للتمييز العنصري، يجد جذوره في إرث حضاري وثقافي وعقائدي يضرب بجذوره في تاريخ الغرب برمته.
وتبقى الولايات المتحدة الأميركية حالة خاصة في هذا المضمار، وخصوصاً في الوقت الراهن، إذ ابتليت برئيس يعتقد بأنه "نبي البيض ومُخلّصهم"، وهو اعتقاد مترسخ، ليس فقط في شخصيته كإنسان، بل في كل مؤسسة الإدارة الأميركية الحالية.
إذا كان ما يسمى "عصر التنوير الأوروبي" في مخيلة الإنسانية هو عصر العقلانية وحركات التحرر والاعتراف بالحقوق المدنية والفردية، فإنه لم يكن كذلك فعلاً إلا جزئياً، وفي الدول الأوروبية فقط، لأنه عصر "يانوس"، أي أنه ذو وجهين: الوجه الذي أشرنا إليه، والوجه البشع المتمثل في دفاع أغلبية مفكري الغرب وفلاسفته عن الاستعمار وتجارة الرقيق، بما يتضمنه ذلك من احتقار للشعوب الأخرى والعنصرية تجاههم وإقصائهم الإرادي من المشاركة في الاستفادة من خيراتهم الطبيعية، لكي لا ينافسوا الغربيين في الثراء وبناء قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية لتوسيع بسط نفوذهم في العالم، بل بالاحتفاظ بمستعمرات في ما وراء البحار في بقع مختلفة من المعمورة إلى الآن.
بما أن الغرب خصص لنفسه مكاناً، وجعل بينه وبين العالم كله حدوداً رمزية تُضاف إلى الحدود الجغرافية، معتبراً نفسه مركز الحضارة الإنسانية وضامنها والمدافع عنها، فقد اتكأ على إرثه الإغريقي في تعامله مع مستعمراته، ووجد في الكثير من "أبنائه الأبرار"، من فلاسفة ومفكرين، الجنود المجنّدة لتأسيس الوجه الخبيث لـ"يانوس".
وبالاعتماد، أو بالرجوع إلى بعض فلاسفة الإغريق، من مثل أفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص، اللذين نظرا للعبودية والعنصرية، أصَّل العديد من فلاسفة التنوير للعنصرية الغربية، بدءاً ممن يُعتبر "أب التنوير"، ونقصد هنا إيمانويل كانط: "يمتلك الهنود الصُفر موهبة أقل. ويوجد الزنوج في مرتبة أقل".
آمن كانط بأن بعض الاختلافات بين البشر هي اختلافات فطرية، وساهم هذا، بل شجع على تأسيس البيولوجيا العنصرية، وادعى بأنه لا يمكن لجميع الأعراق الوصول إلى المستوى نفسه من "التحضر". ويكفي ذلك للمس كيف كانت العنصرية منسوجة بخيوط التنوير والحداثة والفلسفة التجريبية والعقلانية على حد سواء.
لم يخرج هيجل عن تعاليم أستاذه كانط في هذا المضمار، بل أسس "روحاً عنصرية للتاريخ"، ودياليكتيكاً بين "البيض والسود: كنقيضين"، حالّاً إشكالية هذا التناقض بإعلاء الجنس الأبيض على باقي الأجناس: "إنّ الرجل الأفريقي يمثل الرجل الطبيعي بكلّ وحشيّته ونزقه. إذا أردنا فهمه، يجب تناسي كلّ طرائق رؤيتنا للأشياء نحن الأوروبيين. يجب ألا نفكر لا في إلهٍ روحيّ، ولا في قانونٍ أخلاقيٍّ، يجب تعليق كلّ احترامٍ وكلّ أخلاقٍ لما نسمّيه مشاعر. كلّ ذلك ينقص الإنسان (الأفريقي)، الذي ما زال في مرحلةٍ خامٍ، ولا يمكن أن نجد في طبعه ما يمكن أن يذكّرنا بالإنسان".
إن لائحة الفلاسفة العنصريين طويلة، ولا يسعنا التطرق باستفاضة إلى كل حالة على حدة، لأن ذلك يتطلب مجلدات قائمة بذاتها، ولكن يمكننا ذكر بعض الأسماء النموذجية، منهم جون لوك ودافيد هيوم وفولتير وماركس وإنجلز، وآخرين كُثُر. ونلاحظ حالياً نهضة حقيقية للأنوار عند العديد من مفكري أجنحة الوسط والمحافظين في الغرب، ممن رجعوا إلى الحركات الفكرية للقرن السابع عشر والثامن عشر.
يؤكد مثل هؤلاء المفكرين أن تاريخ الأنوار يمشي بطريقة مستقيمة، ومن دون تعرجات، نحو التقدم، من دون أي نقد، لا ظاهراً ولا مضمراً للويلات التي جاء بها أيضاً، من مثل الاستعمار والعنصرية والعبودية والأبرتهايد، ذلك أن الغالبية العظمى من هؤلاء المفكرين يقبلون الاستعمار، ولا يرون حرجاً في العنصرية، كهانا أرينت وسارتر وهيدجر وبروس غيلي وغيرهم.
وبهذا، نلمس الوجه الحقيقي للأنوار الغربية، لا لأنها مرتبطة في الأساس بمركزية أوروبية واضحة فقط، بل لأنها إقصائية وإقليمية، أي محدودة ثقافياً وجغرافياً، على الرغم من ادعائها بأنها كونية.
لا جدال إذاً في وجود جذور عميقة للعنصرية في الفكر والثقافة الغربيين. ويوضح هذا بما فيه الكفاية ازدواجية الخطاب الثقافي الغربي، وخصوصاً الإرث التنويري منه.
وعلى الرغم من أن المرء يعلّل موقف الكثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين بكونهم أبناء عصرهم، وبأن العنصرية كانت أمراً يُمارس قانونياً، وكانت مقبولة من طرف عامة الناس، فإن هذا الطرح تبريري أكثر منه بُرهاني، لأن هناك مفكرين آخرين رفضوا العنصرية رفضاً قاطعاً، وبحزم، في الفترة التاريخية نفسها.
ثمة ما يُمكن أن يُسمى وجوهاً فلسفية حاولت عقلنة العبودية والعنصرية بأدوات فكرية تنويرية وحديثة ومعاصرة. وما يؤكد هذا الطرح هو أن العقلية العنصرية قابعة في الفكر الغربي عامة، المؤسس والمقتنع بهرمية الإنسانية.
على الصعيد العقائدي، فإن البروتيستانية الكلفانية التي رافقت الاستعمار الإنجليزي لأميركا الشمالية، هي البنت الشرعية للعنصرية الأميركية الحالية، بل للأبرتهايد الجنوب الأفريقي البائد. وهذا الجناح المسيحي بكل تلويناته واتجاهاته وكنائسه هو جناح يؤمن بتفوق المسيحي البروتستاني الأبيض، بل يعتبره "المسيحي المختار" من طرف الرب، وعلى عاتقه مسؤوليات جمة، فهو في تصور هذا الجناح أهم ما يوجد في الكون، ولا توجد الشعوب والأعراق الأخرى إلا لخدمته والسهر على رفاهيته وراحته.
أصبح هذا المبدأ إيديولوجية قائمة بذاتها لبعض الأحزاب اليمينية المتطرفة، سواء في أميركا ذاتها أو في أوروبا الغربية. لا يتعلق الأمر بأحزاب ومجموعات شُعوبية وقومية فقط، بل بمجموعات راديكالية لا تؤمن إلا بنفسها ومصالحها وتفوقها، وبضرورة إخضاع العالم لمشيئتها، باعتبارها مشيئة الرب نفسه.
وهنا بالضبط نلتقي بانتخاب ترامب رئيساً لأميركا، على الرغم من أن الدين لا يؤدي في حياته الشخصية أي دور يُذكر. ورغم ذلك، يعتبر نفسه حامياً للمسيحية في أميركا. وما يقصده بالمسيحية يُختزل أساساً في الكنائس الإنجيلية، وهو يصرح في كل مناسبة بأنه ينتمي إلى الكنيسة المشيخية. ولنذكر هنا أن بابا الكاثوليك الحالي أكد أن دونالد ترامب لا يمكن أن يكون مسيحياً، بالنظر إلى سياسة بناء جدار حدودي بينه وبين المكسيك، أي بين أغنياء المسيحية وفقرائها.
يؤمن الإنجيليون في الولايات المتحدة بالكتاب المقدّس حرفياً، ويرون أن ترامب مرسل من الله، ويعتقدون بأنه سيحقق نبوءات الكتاب المقدس. هذا الموقف السياسي الواضح لهذا الجناح الديني ليس جديداً، لأن الإنجيليين معتادون على تأييد الجمهوريين الأميركيين بكل الوسائل المتاحة، الشرعية منها وغير الشرعية، لأنهم يدافعون عن مصالحهم الإيديولوجية والاقتصادية، فالقسيسة باولا وايت، المستشارة الروحية الخاصة بالرئيس الأميركي، وهي واحدة من قادة تجمّع "إنجيليون من أجل ترامب"، تصرح للعلن: "حين تقول لا للرئيس ترامب، فكأنك تقول لا لله".
وتنتمي وايت أيضاً إلى الكنيسة الخمسينية التي تؤمن بالشفاء من الأمراض بالإيمان وبما يسمّونه إنجيل الرخاء، وهي واحدة من أثرى الإنجيليين، إلى جانب كنيث كوبلاند، بتكديسها أموال ما يُسمونه "تبرعات" المؤمنين، أي سلب الأميركيين البسطاء المنتمين إلى كنيستها أموالهم، وهم يتوهمون بأنها ستتضاعف، لأنها قريبة من الله، ولها مواهب تخولها إدارة هذه الأموال، لتتكاثر أكثر وتعود بالنفع على "المتبرعين".
ومن بين الداعمين لترامب، مدير مؤسسة "ركّز على العائلة"، جيمس دابسون، وهي مؤسسة موجودة في مدينة كولورادو سبرينغز، تشكل نواة الحركة الإنجيلية المتطرفة، وتحتضن أيضاً أكاديمية سلاح الجو الأميركي، التي تضم أكبر نسبة مئوية من الإنجيليين اليمينيين في الجيش الأميركي حالياً.
ومن بين الإنجيليين المتطرفين الداعمين لترامب، هناك أيضاً فرانكلن غراهام، المعروف على نطاق واسع بمواقفه الكارهة للإسلام والمسلمين، وهو مسيحي صهيوني، ممن يعتقدون بأن القدس يجب أن تكون تحت الحكم الصهيوني، لكي تتحقق النبوءات التي يعتقدون بأنها تمهد لرجوع المسيح وبداية الخلاص. هذه الفكرة في حد ذاتها هي فكرة عنصرية متطرفة، لأن الخلاص يتوقف على فرقتهم فقط، لأنهم "شعب الله المختار".
لرفع أي لبس، لا توجد علاقة للإنجيليين العرب، أي الكنائس البروتستانتية، وخصوصاً في سوريا ولبنان، بالإنجيليين في الولايات المتحدة الأميركية، الذين يؤمنون بأن الله يتدخل في مجرى التاريخ من خلال البشر، ولا سيما الحكام وأصحاب النفوذ.
انطلاقاً من كل ما سبق، يمكن البرهنة بأن العنصرية هي من الأسس المهمة في السياسة الداخلية الأميركية، فمن خلالها تُذكّر هذه السياسة دوماً بقوتها وسيطرتها والتفافها على القضايا العادلة لدول أخرى، ومنها القضية الفلسطينية، المُستعمرة حالياً من طرف نظام أبرتهايد مدعوم من إدارة ترامب نفسها.
يقف العالم الغربي برمته مُتفرجاً على ما يحدث من ممارسات عنصرية في أميركا، من دون إدانة كحد أدنى، للإيمان بأسطورة "حقوق الإنسان" و"الأقليات" و"العدالة".. التي نظّر لها ويطالب العالم باتباعها وتطبيقها.
والعنصرية بهذا المعنى هي بصمة عار على جبين الغرب بأكمله، الذي لا يستطيع ولا يُريد التخلص منها، لأنها لبنة من لبنات بنائه النفسي والاجتماعي والثقافي والحضاري، فلكي يكون الغرب، لا بد من أن يكون عنصرياً ومتحيزاً وإقصائياً، لا يعترف إلا بذاته وهويته وثقافته.
وإن أرادت الشعوب الأخرى الانخراط في المُثل التي جاءت بها الحضارة الغربية منذ القرن السادس عشر، فإنها لا تستطيع ذلك، لأن الميكانيزمات الخفية للعنصرية الغربية تقف لها بالمرصاد، ولا تريد لها أي تقدم وتحرر واستقلال سياسي واقتصادي وإيديولوجي، لأن ذلك يعني أيضاً - وفي الوقت نفسه - بداية انهيار الغرب كمنظومة ثقافية وحضارية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً