خنافيس اللحاء في شجرة آل سعود.. مقاربة نفسية
عندما يُتابع المرء عن كَثَبٍ أنشطة وسلوك أمير السعودية محمد بن سلمان، فلا يمكنه التخلّص من الإعتقاد بأن هناك شيئاً غير عادي على المستوى النفسي لهذا الشخص. وللإيجاز هناك ثلاثة أصناف من الأمراض النفسيّة منها ما هو مُرتَبِط بالجسد وآخر عُصابيّ وثالث ذُهانيّ.
إذا كان النوع الأول يترجم التفاعُل وتبادُل التأثير بين الجسد والنفس، وهو موضوع عِلم النفس الفيزيولوجي؛ فإن النوعين الأخيرين ينتميان إلى الإضطرابات الوظيفية لشخصٍ ما، من دون أيّ سببٍ عضوي جَلِي. وينتمي "الرهاب Phobias"، إلى حظيرة الإضطرابات العصابيّة.
هناك مُصطلحان عِلم نفسيان يجاوران الرهاب هما الخوف من وضع أو شيء أو شخص، يختفي باختفاء سبب هذا الخوف. وهناك القلق النفسي، وهو شعور غير مُحدَّد، يكون بصيغةٍ حادَّة، ويتجلَّى في نوبات هَلَع، وقد يكون مُتسلسلاً ودائماً، لكنه أقل حدَّة، أيّ ما يُسمَّى بالقلق العائِم.
اشتقّ مُصطَلح "جنون العَظَمَة" من الكلمة اليونانية ميغالومانياMegalomania ، أي وَهْم يُبالِغ المرء في وَصْفِ نفسه بما ليس هو أو فيه. يتعلَّق الأمر إذن بذهان عقلي، يتخلّله هذيان واضح وغير منقطع، مفعوم بمشاعر العَظَمَة والإضطهاد، تتسلَّط عليه أفكار تقوده إلى الهَذَيان، على الرغم من عدم ارتباطها بالهَلْوَسات، لأن حديثه يظهر منطقياً. بعبارةٍ أدقّ إن المريض بالعَظَمَة يعتقد اعتقاداً جازِماً في فكرةٍ خاطِئة، وبهذا يقترب كثيراً من فِصام الشخصية، بنفحةٍ كاملةٍ في رفض مُخالَفة الآخرين له.
إذا كان جنون العَظَمَة يُعبّر عن عرضٍ من أعراض الفصام، فإنه يكون أخطر، على المريض وعلى مُحيطه، وبالخصوص مع مَن يعارضونه الرأي أو يقفون في وجه طموحاته، بحيث يُصبح عدوانياً، ويطوِّر الشعور بالتنحية المادية أو الرمزية لكل مَن يتوهَّم بأنهم يقفون في وجهه ولا يحبّونه ولا يؤيّدونه.
عندما نتأمَّل الوضع السياسي السعودي الحالي، أي مرور البلد بمرحلةٍ انتقاليةٍ عصيبةٍ وصعبةٍ على كل المستويات، وحدوث شَرْخِ في العائلة الحاكِمة لأسبابٍ معروفةٍ وأخرى داخلية سرّية، والرغبة في تمرير زِمام الأمور بطريقةٍ لا تتمتَّع بإجماع كل آل سعود، أو على الأقل أغلبيَّتهم؛ فإننا نفهم أيضاً الدينامية النفسية التي تُحرِّك الأمير المُرشَّح لتقلّد كرسي الحُكم.
ما دامت الطريقة التي أوصلته إلى الترشّح ليكون هو مَلك المستقبل غير مفهومة، ولم تُعلن المؤسَّسة الملكية السعودية لا عن أسبابها ولا عن مُسبِّباتها، بل أتت للعَلَنِ بطريقةٍ مُباغِتة؛ فإن حقبة صراع طويل الأمد في السعودية كان قد دُشنت، قادت إلى كل ما قادت إليه من "مُحاربة الفساد" عند بعض أمراء العائلة الحاكِمة وحَبْسهم لمدّة مُعيَّنة في سجنٍ راقٍ، لا يليق إلا بالأمراء وأصحاب السُلطان والجاه. بل خُرِصت أصواتهم بعد قبولهم للشروط التي فُرِضَت عليهم، وفي هذا الخَرْص يكمُن الخطر الحقيقي على الأمير-الملك الحالي؛ لأنه يولِّد كراهية غير مُعلَنة ويقود إلى الإشتغال في سرّيةٍ وصمتٍ ضدَّه. وهنا أيضاً منبت "الرهاب الأميري"، المُسبّب من "وَهْم العَظَمَة". ويمكن شرح هذا الإرتباط بين الإثنين كتحليلٍ نفسي إلى كون "الرهاب" هو نتيجة منطقية "لمرض العَظَمَة". فالتمثّل الداخلي للذات "كأفضل" و"أحقّ" مَن كان بإمكانه أن يُصبح مَلِكاً، بعدما "أُزيح" -لأسبابٍ مُبْهَمة غير مُعْلَنة- مُرشَّح للملكية آخر؛ يُغذّي الرهاب ويقوّي أعراضه، ليتعمَّمَ ليس فقط على الدائرة الضيِّقة للأمراء المُقرَّبين، بل على كل العائلة الحاكِمة وكل مَن تظهر عليه ملامِح "المُعارَضة" من أبناء الشعب السعودي. وهنا نلمس الثُنائية القُطبية لهذا الإضطراب: من جهةٍ هناك العمل بخُطى حثيثةٍ على الظهور بمظهر "الأمير الحَداثي" بإحلال ما كان "مُحرَّما" كالترفيه (ديسكو حلال، خمر حلال، قيادة السيارة للنساء إلخ). ومن جهةٍ أخرى هناك البَطْش و"الإرهاب السياسي" على المُعارِضين، يصل إلى حدّ "القتل العَمْد" بمحاكمةٍ أو غير محاكمة.
عكس التحليلات التي تذهب إلى الإعتقاد بأن مصدر هذه الثُنائية القُطبية راجِع في شقّه إلى الرغبة في إرضاء "الرأي العام العالمي" -أي بصريح العِبارة الساسة الغربيين، وبالخصوص الأميركان منهم- بتشريع بعض "الإصلاحات" الاجتماعية والسياسية، فإننا نرى بأن هذا القُطب بالذات هو الذي يُفسّر عُمق الإضطراب النفسي الأميري، المُتمثِّل في "الرهاب"، لأن "الإصلاحات" الطفيفة المُقترَحة، لم تأتِ عن اقتناعٍ أميري بضرورته، بل درءاً للخطر الخارجي الأَعْتَد والأخطر، لأن مقاومته شبه مُستحيلة. بل إن الشعور بالإضطهاد الداخلي، المُصاحِب للرهاب، هو الذي قاد أيضاً إلى "التحالف مع الشيطان= الصهاينة" ضد كل العرب والمسلمين، رجاء في الحماية إذا اقتضى الأمر ذلك؛ ومن دون دراسة وافية لعواقِب هذا التحالف، لأنه سينقلب عليه في القادِم من الأيام.
أما الشقّ الثاني لهذه القُطبية، فإنه يحاول كَبْت الرهاب بالشعور بالعَظَمة اتجاه الشعب السعودي نفسه والجيران (حال قطر) وكل مَن يتخيّل المرء بأنهم ضدّ التنصيب المَلَكي للأمير عوض أمير كان منصباً قبله. فالطاقة النفسية غير المُعقلنة وغير المُستثمرة بطريقةٍ إيجابيةٍ تدفع إلى العَمى والصَّمَم السياسي، وتخلق استعداداً داخلياً لتنحية كل مَن يظنّ بأنه ضدّه، سواء أكان ذلك حقيقياً أو مُتوَهّماً مثل ما حصل مؤخّراً مع الأميرين أحمد بن عبدالعزيز ومحمّد بن نايف. والخطير في الأمر أن المرء يجد مثل هذا السلوك عادياً، بل ضرورياً لحماية النفس والمنصب.
في ظلّ التطوّرات الداخلية والخارجية التي تعرفها السعودية حالياً، وإذا أخذ المرء بعين الإعتبار بأن السلطة الحاكِمة حالياً لا تُعير أية أهميّة تُذكَر لتسيير أمور الأمَّة بعقلٍ وتبصّرٍ، وبما أن "وليّ أمرها" قد خطا خطوات مهمّة في "رهابه" و"جنون عَظَمَته"، فلا يسع المرء إلا التنبؤ بما هو أسوأ للسلطة القائمة، لأنها تحفر حفرتها بسواعدها وبخُطى حثيثة. فخنافيس اللحاء، التي تنخر الشجرة المَلَكية نشيطة من قلب الشجرة ومن خارجها، وهي لا تصيب أية شجرة عن طريق الصدفة، بل عندما لا تكون الشجرة نابِتة في بيئةٍ صحيةٍ وتتغذَّى من تُربةٍ غير صالِحة. وإذا سلَّمنا بفرضية "تسابق" حقيقي لأفراد العائلة الحاكِمة قَصْد الرِيادة، فإن السعودية ستصبح في قادم الأيام حَلَبة صِراع تُذَكِّرنا بأفلام "رُعاة البقر"، حيث لا يؤمِن المرء إلا بالقوَّة والبَطْش والقَتْل وتنحية كل الشوائب للإستفراد بقطار الدولارات وبالمراعي الفيحاء لقطيع البقر.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً