ماكرون والإرث الإمبريالي
لا يفهم المرء، وخصوصاً من يعيش في أوروبا الغربية، لماذا تتعامل الدولة الفرنسية منذ بداية الجمهورية الخامسة مع الإسلام بين ظهرانيها بطريقة غريبة للغاية. والواقع أنَّ فرنسا هي بلد مسلم، بالنظر إلى أن الإسلام هو ثاني دين يمارس في بلد "الأنوار والعقل والحرية"، وكان عليها، عوضاً عن محاولاتها المستمرة للنيل من الإسلام والمسلمين في أراضيها، أن تطلب رسمياً الانضمام إلى مؤتمر القمة الإسلامية أو أي منظمة تعاون مسلمة.
إنَّ تعبير "إسلام فرنسي" هو تعبير تافه للغاية، يقلّص ديناً تاريخياً كبيراً إلى مكونه القطري، وكأن هناك إسلاماً مغربياً، وآخر إيرانياً، وثالثاً سعودياً، ورابعاً مصرياً، وخامساً سورياً... تنطوي مثل هذه المفاهيم على عمق أزمة النموذج الفرنسي مع أقلياته عامة، والمسلمة خاصة، ففرنسا تشهر في وجه المسلمين تهمة الانتماء والوفاء المزدوج من جهة. ومن جهة أخرى، تطلب من الدول المصدّرة لليد العاملة أن تؤطّر مسلميها، كما يحدث كل مرة عند تنصيب رئاسة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في فرنسا، بمعنى أن الجمهورية الفرنسية اللائكية تحتمي بديكتاتوريات عربية لحمايتها من مواطنيها المسلمين.
إذا رجعنا إلى ما حدث مؤخراً، فإنّ المرء يشمّ في الخرجات الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون الروائح الفائحة لبداية حملة انتخابية ستقوده لا محالة إلى شرط العمل السياسي، كما قادت من سبقه إلى كرسي عرش جمهورية "حرية، مساواة، أخوة". والواقع أن ماكرون لم يخرج على تقليد من سبقه، فعندما تقترب الحملات الانتخابية في فرنسا، وخصوصاً الرئاسية منها، يهاجم الرئيس الذي يكون في الحكم المهاجرين عامة، والمسلمين على وجه الخصوص، والمغاربيين بالتحديد. ويعد مثل هذا الهجوم عملية انتخابية استباقية، ولا سيما أن كل الفرنسيين يعرفون أن ولاية ماكرون لم تجلب لهم إلا الويلات والتعثرات، وتأكيد أفول نجم فرنسا، وخدش هويتها النرجسية "كالأمة العظمى La Grande Nation".
قبل هجومه الخشن على الإسلام جملة وتفصيلاً، وقبل تشخيص يدَّعي أنَّ الإسلام في أزمة، فإنَّ ماكرون نصّب نفسه شيخاً أزهرياً أو زيتونياً أو قيروانياً يضع أصبعه على المشكلة الحقيقية للإسلام. ولعل اللاوعي الفرنسي الذي يمثله ماكرون، لم يقم في هذه الحالة إلا بتصعيد أزمة فرنسا ذاتها على الإسلام. بمعنى تحليل نفسي، أصيب ماكرون بعمى وجودي يعكس أزمة أمته في دين لا يعرف عنه إلا القشور، أو لا يعرفه إلا من خلال إرثه الإمبريالي وماكينة الأحكام المسبقة التي تنتجها المركزية الغربية عامة، والفرنسية بالتحديد.
إذا استحضرنا السلوك الإمبريالي لماكرون تجاه لبنان واللبنانيين في عزّ محنتهم بعد كارثة مرفأ بيروت، وتدخّله السافر والمباشر في شؤون بلد ذي سيادة، رابطاً شرط مساعدته بتطبيق اللبنانيين لإملاءاته، وضرورة تشكيل حكومة لبنانية وفقاً لما "أمر" به، فإننا نفهم خيبة أمله في عدم قدرته على استغلال أزمة لبنان وتقديمها للفرنسيين كدليل على قدرة فرنسا على تسيير مستعمراتها كما لو أنها لم تغادرها أبداً، فقد أفهم اللبنانيون ماكرون بأن عهد الانتداب قد مرَّ، ولا يحقّ له فرض خياراته على الشعب اللبناني.
وإذا استحضرنا أيضاً النكسات العسكرية لفرنسا في دول السّاحل، وإخقاقها التام في القضاء على الجماعات الإسلامية في تلك المنطقة الأفريقية، بل قيام حكومة عسكرية في مالي، وتعقّد الأمور في السينغال، والرفض التام الجزائري للسياسة الفرنسية في أفريقيا، وإشعالها فتيل الحروب والنزاعات القارية، وإذا تأمَّلنا خروج فرنسا من الصراع في ليبيا بخفي حنين، وإقصاءها من مجريات الأحداث هناك، وتكشير إردوغان عن أنيابه في وجه ماكرون بسبب ليبيا ومشاكله مع اليونان، وذعر ماكرون واحتماءه بالاتحاد الأوروبي في محاولته "ردع إردوغان"، وإذا أضفنا إلى هذا الكوكتيل المتكامل التّراجع الكبير للغة الفرنسيّة في عموم الكرة الأرضيّة، وخصوصاً في المستعمرات الفرنسية للأمس، فإننا نفهم إلى حد ما أنّ ماكرون لم يبق له إلا الإسلام لإيهام الفرنسيين والأوروبيين بأنه المشكلة الحقيقية التي تهدد أوروبا عامَّة، وفرنسا خاصَّة.
بهجومه على الإسلام، يدخل ماكرون حلبة الحروب الصليبيَّة من بابها الواسع، للتّغطية على كساد السياسة الفرنسيّة في ما يخصّ هجرة المسلمين. بجرّة قلم، يحكم ماكرون على الإسلام عامّة من خلال سلوك وتصرف مجموعات مسلمة في فرنسا، لا تقوم في عرفها إلا بما يسمح به القانون الفرنسيّ في ممارسة دينها ليس إلا.
لا نناقش حقيقة وجود مجموعات إسلاميّة سياسيّة في فرنسا، تحاول بكلّ ما أوتيت من قوة فرض نفسها على رقعة الشطرنج السياسيّ الفرنسيّ، لكنّنا نرفض رفضاً قاطعاً أن يعمّم ماكرون حكمه الخاطئ على الإسلام من خلال مثل هذه المجموعات.
علاوةً على ذلك، هناك حكم منطقي خاطئ لماكرون في هذا الأمر، فهو يتحدَّث عن الإسلام وكأنه شخص، وهو في الواقع يعني المسلمين. وهنا بالضبط يكمن الخطر الحقيقي للعنصرية المبطَّنة لرئيس دولة يحاول الفوز بولاية رئاسية جديدة على حساب أقلية مسلمة غير منسجمة، وتنتمي إلى تقليد ديني وشعائري يختلف من مجموعة إلى أخرى، طبقاً للدولة الأصلية لعناصر المجموعة.
عندما يخلط سياسيّ ما الإسلام بالمسلمين، فإنَّ هذا لا يعني شيئاً آخر سوى الرغبة في النيل من الاثنين معاً في الوقت نفسه، بأدوات إيديولوجيّة تنتمي إلى القرون الغابرة، عندما كانت فرنسا تعدّ نفسها قوة إمبريالية يُحسب لها حساب، تقرّر مصير الشعوب، وتلتهم خيراتها، وتعرّضها لكلّ أنواع العذاب الجسديّ والنفسيّ.
الإسلام دين من ضمن أديان في فرنسا، وفي الغرب عامة، ومهاجمته بهذه الطريقة من طرف رئيس يحرّض أمثال "شارلي إيبدو" على المسّ بالمسلمين في كرامتهم الدينية وهويتهم الحضارية، هي في العمق فقدان لبوصلة التحكّم بمجرى الأمور في فرنسا.
وبهذا، لا يكون موقف ماكرون من المسلمين الذين يعيشون في فرنسا أفضل من موقف ترامب، بل نسجّل بقلق أنه منخرط إلى النخاع الشوكي في إيديولوجية إقصاء المسلمين من الحياة العامة، ومن السياسة خصوصاً، لأنهم، في نظره، مواطنون من الدرجة الثانية على أكبر تقدير.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً