إسكات صوت الحق.. الخلط المتعمّد بين اليهود والصّهيونيّة
تحاول الحركة الصهيونية منذ قيام الأبرتهايد الإسرائيلي على أرض فلسطين تقديم أيّ نقد لسياسة الكيان الصهيوني كمعاداة لليهودية. وإذا كان هذا الخلط المُتَعَمَّد إيديولوجيا قائمة بذاتها، فإن أساسها السياسي يبقى واضحاً: خرص كل نقد نزيه للممارسات الأبرتهايدية الصهيونية تجاه الفلسطينيين، بإلصاق تهمة المعاداة للسامية به.
بالمنطق الصهيوني، من ينتقد الصهيونية هو معادٍ للسامية/اليهودية، وهو نوع واضح من اختزال اليهودية في الصهيونية، على الرغم من أن 6 ملايين صهيوني فقط هم الذين يعيشون في فلسطين المحتلة، فيما فضَّل 10 ملايين يهودي البقاء في أوطانهم الأم في الدول الأوروبية.
للتذكير، إن الأغلبية الساحقة لليهود كانت بين العامين 1896 و1939 ضد فكرة الصهاينة المتمثلة في إقامة دولة خاصة باليهود في فلسطين، والدليل على ذلك هو أن عدد اليهود الذين التحقوا في بداية الحركة الصهيونية بفلسطين لم يتعدَّ 400 ألف شخص، من أصل 4 ملايين يهودي غادروا أوروبا إلى وجهات أخرى بعد وصول النازية إلى الحكم في ألمانيا وملاحقة اليهود.
من بين السُّبل التي تمر منها الحركة الصهيونية لربط معاداة السامية بالصهيونية، هناك محاولات لتمرير قوانين في بعض الدول الأوروبية، حيث يكون لهم تأثير في هذا الاتجاه. وربما تكون محاولة المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا خير برهان على ذلك. ونستحضر هنا ما قاله الرئيس الفرنسي ماكرون: "لن نستسلم لمعاداة الصهيونية، لأنها الشكل المعاد اختراعه من معاداة السامية".
حدث هذا يوم 16 تموز/يوليو 2017، بحضور نتنياهو لأول مرة في حفل إحياء ذكرى الاعتقال الجماعي الذي نفّذته الشرطة الفرنسية في 16 و17 تموز/يوليو 1942 (Rafle du Vélodrome d’Hiver). وتم ترحيل عدة آلاف من اليهود إلى محتشدات الإبادة في أوروبا الشرقية. لم يمر مقترح القانون هذا في فرنسا، بحيث إنّ 154 نائباً فقط صوّتوا عليه من أصل 577. ولو مرَّ القانون، لكان قد أحدث نتائج وخيمة في فرنسا، لأنه سيفتح الباب على مصراعيه لحركات سياسية أخرى للمطالبة بإقامة قانون خاص بها يُجَرِّم من يعاديها: "قانون تجريم المعادين للشيوعية" أو "قانون المعادين لليبرالية"...
في استطلاع للرأي قام به المعهد الفرنسي للرأي (IFOP) في العام 2018، اتضح أن 57 في المئة من الفرنسيين لديهم "صورة سيئة عن إسرائيل"، و69 في المئة لديهم "صورة سيئة عن الصهيونية"، هل يعدّ ذلك معادة للسامية؟
ربما هذا ما قد يقوله اللوبي الصهيوني في فرنسا، الذي يحاول تقديم الأبرتهايد الإسرائيلي كضحية للهجمات العنصرية ضد اليهود فيها. وحتى وإن لم نكن نشكّ في مثل هذه الهجمات، بل لا نقبلها، فإن العنصرية التي تُطال ذوي البشرة السمراء والمسلمين بصفة عامة، والعرب بصفة خاصة، والغجر... لا تأتي في الدرجة الثانية، فكراهية اليهود الفرنسيين متأصلة في السياسة الفرنسية منذ حركاتها الاستعمارية، وتعززت أكثر إبان حكومة فيشي النازية. وكراهية اليهود الفرنسيين من طرف بعض المسلمين لا تعود فقط إلى الممارسات العنصرية الصهيونية في فلسطين، بل زُرعت في المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا بطريقة مباشرة في عهد حكومة بيتان Pétain.
وليس صحيحاً أنّ كلّ مسلمي فرنسا الحاليين معادون لليهودية، بل هناك الكثير من النقاط التي يشتركون فيها، وخصوصاً تعرضهم معاً لعداء واضح من العلمانيين الفرنسيين، لأن أغلبيتهم متشبثة بممارسة دينها، وهذا ما تعتبره الأوساط العلمانية والملحدة في فرنسا مشكلة، لأنها تطمح إلى تعميم نموذج أحادي للمواطن الفرنسي، قوامه التجانس، أي رفض كل تعددية في النسيج الاجتماعي الفرنسي.
ولا نتردد هنا في اعتبار النموذج العلماني الفرنسي ديكتاتورية حقيقية، تسلب كل من يريد التعبير عن حقه كمختلف هذا الحق، فلكي يكون المسلم أو اليهودي فرنسياً حقيقياً، عليه أن يتخلى عن دينه، وأن يصرح علناً بأنه علماني، ويقبل كل الإهانات التي يتعرض لها معتقده.
ليس لنا أي اعتراض على العلمانية إن كانت تمارس كحقّ في الاختلاف والتعدّد والتنوّع العرقي والثقافي، كما هو الأمر في بلدان أوروبية أخرى، لكنها إن مورست لاضطهاد مسلمي فرنسا، وتعمّدت الإساءة إليهم بخدش مشاعرهم الدينية بطريقة ممنهجة مؤسساتية، فإننا ضد مثل هذه العلمانية.
وإذا استمر الأمر على ما عليه اليوم في فرنسا، وشجَّعت إدارة ماكرون على الاستمرار في الهجوم على المشاعر الدينية للمسلمين بتعليق صور كاريكاتورية كبيرة مسيئة إلى نبي المسلمين في الشارع العام في الكثير من المدن الفرنسية، فإننا لا نستبعد البتة أن الرد سيكون أقوى، فالحكومة الفرنسية تصنع إرهابييها بيدها علناً، وتشعر بالدهشة عندما تقع أحداث مأساوية يذهب ضحيتها مواطنون آخرون، ليس لهم ذنب سوى صمتهم أمام عنصرية حكومتهم وإشعال فتيل حرب أهلية حقيقية في شوارع المدن الفرنسية الكبرى، كرد فعل على سياسة المسؤولين الفرنسيين الحاليين.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً