الاستهلاك كمرضٍ للأمَّة
أصبح المرء يلمس نوعاً جديداً من الطّبقات الاجتماعيّة، مُغايراً تماماً لما كنّا نعهده. وفي قمّة هرمها، توجد الطبقة الاستهلاكية بامتياز، المؤلّفة من نساءٍ ورجالٍ لا يفوتهم أيّ جديد في السوق.
كدولٍ "سائِرةٍ في طريق النمو"، يعرف العالم العربي سقطةً نوعيةً في فخّ الاستهلاك. يستهلك هذا العالم مُنتجات مُختلفة، لا تُصنَع أغلبيّتها محلياً، ويُفضّلها المرء على كلِّ ما يُنتَج في ربوع بلاده.
وفي عالمٍ طغت عليه ثقافة ليبراليَّة رأسماليَّة لا يهمّها سوى الربح المادّي المَحْض، ولو على حساب صحّة الإنسان الجسديّة والعقليّة والنفسيّة وعلاقاته العائليّة والاجتماعيّة، أصبح الاستهلاك، منذ حركات التَّصنيع الأولى، نمط حياة قائماً بذاته، له خصوصيّاته ومقوّماته وميادينه المختلفة.
يرتبط الاستهلاك في وعي الناس ولاوعيهم بالرفاهية والخير والبركات، لكنَّه يُعدُّ في العُمق سجناً كبيراً يختاره المرء في بعض المرات طواعيةً، ويُفرَض عليه في الكثير من الأوقات بوسائل شتّى، عن طريق أدوات الدّعاية والتسويق للمُنتجات المختلفة، مما يحتاج إليه الإنسان وما لا يحتاجه أبداً، ولكنّه يقتنيه، على الرغم من ذلك، من أجل الاقتناء فقط.
وهنا تكمُن مشكلة الاستهلاك، وتتمثَّل في سَلْب الإنسان حريّته وإلحاقه بعالم البضائع، ليُصبح بضاعةً تُباع وتُشترى، تُستعمَل أو تُستغَلّ، وتُرمى أو تُهمَل في ركنٍ ما، ما لم تعد لها قيمة شرائيّة تسمح بأن تبقى موضِع اهتمام السوق.
يتهافت الإنسان العربي على الاستهلاك يومياً، من دون أن يعي أنَّ هذا العالم مبنيّ على أساس التلاعُب بالكرامة الإنسانيّة، بل احتقار مَلَكة الحُكم الطّبيعية فيه، واعتباره ساذِجاً، بل رضيعاً لا يملّ ولا يشبع من امتصاص كلّ ما يُنتَج ويُعرَض في أسواقه الشعبية وأزقَّة مدنه العتيقة والمحلات التجارية الفاخِرة في الأحياء "الراقية"، التي أصبحت أسواقاً قائمة بذاتها، يتنافس الكلّ على زيارتها ويتباهى بالتبضّع منها.
ما لا يعيه الكثيرون وهم يلجون هذه "الجوامِع الاستهلاكية الجديدة"، أنَّ منطق الاستهلاك، ولكي تتضخَّم أرباحه، يُراهِن على إغراق السوق العربية بأكبر كميّةٍ من البضائع المختلفة، وعلى تقديم الجديد دائماً، سواء على مستوى الطراز أو البضائع نفسها. وتكون النّتيجة حدوث حركة استهلاكيّة دائبة، حتى أصبح ما يهمّ الناس في قرارة أنفسهم، وخلال أحاديثهم، تبادُل الأخبار عن كلِ جديدٍ في السّوق وثمنه وطُرُق الوصول إليه.
لقد أصبح المرء يلمس نوعاً جديداً من الطّبقات الاجتماعيّة، مُغايراً تماماً لما كنّا نعهده. وفي قمّة هرمها، توجد الطبقة الاستهلاكية بامتياز، المؤلّفة من نساءٍ ورجالٍ لا يفوتهم أيّ جديد في السوق.
ولا يحقّ للمرء أن يسأل مَن لا يملك بالتأكيد ثمن ما يقتنيه من أين له ذلك! لأنَّ "المِلكية الخاصة" هي الآلهة الجديدة التي ابتدعتها الرأسمالية: "إنَّ الاقتناء والامتلاك والربح من الحقوق المُقدَّسة للفرد في المجتمع الصناعي. ولا يلعب إشكال مصدر هذا المُلْك أو ما إذا كان امتلاكه مرتبطاً بأية مسؤولية كانت، أيّ دور يُذكَر. والمبدأ الشائِع في هذا المجال هو: "ليس من حقّ أيّ أحد أن يسألني أين وكيف حصلت على ما أملكه أو ماذا أعمل به. إنَّ حقّي في هذا الإطار غير محدود ومُطلَق". (إريك فروم، الامتلاك أو الوجود، 1956).
ولا يقتصر الاستهلاك على البضائع التكنولوجيَّة، من هواتف محمولة وحواسيب وألعاب إلكترونية وأدوات منزلية وسيارات... بل يتعدّاه ليقتحم ثقافة الإنسان العربي الغذائيَّة، مع كلّ ما يترتَّب على ذلك من مشاكل صحّية ونتائج نفسيّة.
ولا يفوت مُتخصّص، لو مُبتدئ، وهو يُلاحظ وجوه المارّة في شوارعنا، أن ينتبه إلى انتشار الأمراض النفس-جسديّة لدينا، والتي يُسبِّب "الاستهلاك" المُعاصِر غالبيّتها العُظمى بما لا يدع مجالاً للشك، فالوجبات التي تُنعَت بـ"الخفيفة" هي في العُمق معامل كيماوية ملغومة بكلّ أسباب أمراض القلب والشرايين والجهاز الهضمي والتنفّسي، لأنّ نسبة السكّر والملح والدهنيات وكلّ الكيماويات التي تُحسّن الذوق مرتفعة فيها إلى درجةٍ عاليةٍ جداً.
لقد أصبحت عادات العربيّ الغذائية غريبة عن بيئته ومحيطه الطّبيعيّ، بل عرفت تغيّراً ملحوظاً، حتى في نظامها الزمني، سواء على مدار السّنة أو في اليوم الواحد.
ولم تنجُ الثّقافة العربيَّة من بَسْط منطق الاستهلاك جناحيه عليها، وسلبها ثيابها كعروسٍ فاتِنة، لينفرد بها في ركن وجوديّ لإنتاج ثقافة لا نجد منها سوى إسمها، فالمواسم الأصيلة التي كانت تعتَبر ركيزة ثقافية أساسية للمناطق والقبائل، وموعداً سنوياً مهماً، أصبحت "مهرجانات" يُراد منها خلق الحَدَث الثقافي الفريد في نوعه بمضامين غريبة كلّ الغرابة.
أما الثقافة التي تحاول وسائل الإعلام المرئية تمريرها وفرضها، فلا يفوت أيّ مُغفّل الانتباه إلى أنها تجرّه جرّاً إلى بحر الاستهلاك الأعمى، من خلال برامج ومُسابقات ترفيهية همّها الأساسي "تنويم" المشاهِد أو المُستَمِع مغناطيسياً في وَهْم عوالِم تُبهره وتوحي إليه بأنَّ باستطاعة أيٍّ كان أن يصبح نجماً في الغناء أو السينما أو الكتابة، ناهيك بـ"استعمار" الكثير من المحطّات التلفزية الأجنبية وأفلامها وبرامجها صالونات العرب، وطبعهم بما يطبع به المواطن الغربي كذلك، بـ"تلقينه" أنَّ عليه أن يكون "مُستهلِكاً جيداً"، بما أنه أضاع حقّه في أن يكون "مواطِناً جيداً"، أي مُنتقداً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المُزرية التي يعيشها.
المرض المعنيّ في هذا المقال، الناتج من الاستهلاك، يجد جذوره في التبعيّة العمياء لمنطق الاستهلاك وأساليب الحياة التي يفرضها، لهثاً في المقام الأول وراء المزيد من الاقتناء، من دون حاجة ضرورية للاستعمال.
وفي هذا السباق الذي لن يهدأ، لم يعد المرء يُميِّز بدقّةٍ بين أناه والبضاعة، فالإنسان لم يعد ما هو عليه، بل ما يملكه، لأنَّ عُمق الامتلاك الاستهلاكيّ يتمثّل بإحكام السيطرة على الآخرين، فباقتنائي شيئاً ما، أتوهَّم أنني أتحكَّم به، لأنه ملكي، وأتماهى مع فكرة امتلاكي له، إلى أن أصبح جزءاً منه أو يصبح جزءاً مني، حتى يظهر في السوق ما توهمني وسائل الدعاية الاستهلاكية بأنه أهمّ منه.
وهكذا، أدور بأناي حول الأشياء من دون توقّف. وخلال هذا الدوران، أضيّع ذاتي، وأصبح غريباً عن أناي وعن وجودي. وبهذا كلّه، تكون مقادير تهيئة شخصية مُكتئبة في مطبخ الاستهلاك قد توفّرت، بل أكثر من هذا، يصبح الإنسان العربي فأر تجارب لمُختبرات التصنيع الغربية، وأداة فعَّالة لإلهائه عن مشاكله الحقيقية، فالفردانية التي تغنَّت بها ثقافات التنوير الغربي أصبحت لدينا أنانية غير مقنعة، والحرية أصبحت فوضى، والالتزام السياسي بقضيةٍ ما أصبح تدجيناً مرناً مقابل بعض الدولارات لجحافل من الشباب العربي في مختلف أقطار العالم العربي لبثِّ الفتنة.
أصبح الاستهلاك، إذاً، سلاحاً ذا حدين، ينخر الشخصية العربية من الداخل، ويرميها في أحضان اضطرابات نفسية وجودية مختلفة، من مثل الخوف، القلق، عدم الثقة، الشكّ في كلّ شيء، بما فيها الذات، الاكتئاب الفردي والجماعي، والهلوَسات... وتسويق البضائع الغربية في الأسواق العربية، وبالتالي إبقاء العرب في تبعيّةٍ دائمةٍ للغرب على هذا المستوى.
ويتجلّى دَفْع العرب إلى المزيد من الاستهلاك في ميدانين آخرين، يتمثّلان في استهلاك ما تُنتجه الصّناعة الحربيّة الغربيّة، تحت الضغط المباشر لسياسات غربية نجحت في استمرار التّفرقة بين "الأشقاء" العرب وترهيب بعضهم من بعض، وافتعال نزاعات تنتهي بحروبٍ داميةٍ طويلة الأمَد في الدّول العربيّة، فكم اقتنى الحكّام العرب معدَّات حربية من الغرب، لا يُمكن أن تُستعمَل إلا بمُساعدة اختصاصيين غربيين أو هي معدَّات قديمة مُعرَّضة للصَدأ في صحارى بلداننا!
وأحدُ عوالِم الاستهلاك العمياء، وربما أخطرها على الإطلاق، لجوء مُترفي العرب إلى استهلاك إكسسوارات تكون قيمتها المادية كافية لبناء مدرسة أو مستشفى في مدينةٍ عربيةٍ ما. وفي هذا الإطار، يدخل اقتناء ساعات يدويّة بأثمانٍ خياليّة، أو مراحيض ذهبية بأكثر من مليون دولار، أو سيارات فارِهة...
ولا يقتصر هذا النوع من الاستهلاك على حكّام الإمارات والممالك العربيّة البتروليّة، بل يمتدُّ أيضاً إلى دول أقلّ ما يُقال عنها إنها فقيرة، من مثل شمال أفريقيا.
خُلاصة القول، ووفقاً لما سبق ذِكره، أنَّ الاستهلاك، كأداة لتطويع العالم العربيّ، هو سلاح فعَّال في يد الغرب، يستعمله من دون إعلان حربٍ شاملةٍ على العرب، ويمكن تأطيره في ما يُسمّى عبثاً "الحروب الناعِمة"، فتُسلَب من الإنسان العربي كلّ مقوّمات شخصيّته الأصلية والأصيلة، ويُلبَس عباءة الطاعة العمياء للغرب، ويُدفَع الحكّام العرب من خلاله، إما إلى التقاتُل في ما بينهم وإما إلى الإسراف في أموال شعوبهم التي اؤتمنوا عليها، بنيَّة صرفها لتأمين رفاهية هذه الشعوب، لا قهرها وحرمانها من أسُس الحياة الكريمة.
إنَّنا ندعو إلى مُقاطعة المُنتجات الإسرائيليَّة، مهما كان نوعها، كما ندعو إلى مُقاطعة البضائع الغربية، جملةً وتفصيلاً، وهي الوسيلة الوحيدة لنا لنشفى من أمراضنا ونستعيد حريّتنا وكرامتنا من الغرب نفسه، ومِمَّن نصَّبهم بالقوَّة حكّاماً علينا.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً