إقليم "ترانسنيستريا".. بؤرة تصعيد جديدة شرقي أوروبا
لم يكن ملف إقليم "ترانسنيستريا" الانفصالي شرقي مولدوفا، معروفاً على نطاق واسع قبل بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا مؤخراً، لكنه بات الآن محط أنظار العديد من الدول، نظراً إلى أنه يمثل بؤرة تصعيد محتملة إذا امتدت المعارك في أوكرانيا إلى نطاقات جغرافية أكبر وأوسع.
شهد هذا الإقليم خلال الأسابيع الأخيرة، عدة تطورات لافتة، ألقت الضوء بشكل كبير على أدوار ميدانية وتكتيكية مهمة قد يلعبها هذا الإقليم في الحرب الدائرة حالياً في أوكرانيا، ناهيك بما ينطوي عليه هذا الإقليم من إرث سوفياتي، تظهر ملامحه في كل شارع من شوارعه، وهو الإرث الذي جعل هذا الإقليم واحداً من ضمن عدة مناطق انفصالية، نتجت عن انهيار الاتحاد السوفياتي، وبات لها تأثير جيوسياسي حاضر بقوة في الوضع الدولي الحالي.
بداية قصة هذا الإقليم، كانت بعد انضواء مولدوفا خلال القرنين الـ 16 والـ17 تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، التي قامت بالتخلي عن جزء من القسم الشرقي منها، والمسمّى "بيسارابيان مولدوفا" إلى الإمبراطورية الروسية، بموجب اتفاقية "جاسي" الموقعة عام 1792، والتي تم إبرامها عقب الحرب الروسية - العثمانية. أسست موسكو في هذا النطاق الجغرافي مدينة "تيراسبول" عام 1795، التي تمثل حالياً عاصمة إقليم "ترانسنيستريا"، بهدف تأمين الأراضي التي حصلت عليها بموجب اتفاقية "جاسي". وقد أتمت موسكو السيطرة على كامل شرق مولدوفا، بما في ذلك إقليم "ترانسنيستريا"، بعد أن غزته وأجبرت الإمبراطورية العثمانية على التخلي عنه بالكامل عبر اتفاقية "بوخارست" الموقعة عام 1812.
البعد التاريخي لملف إقليم "ترانسنيستريا"
في عام 1918، تم تأسيس الهيئة البرلمانية المولدوفية، بعد عام واحد من اندلاع الثورة البلشفية في روسيا، التي أطاحت الحكم القيصري، وقد صوتت هذه الهيئة في العام نفسه لتشكيلها، على الانضمام إلى مملكة رومانيا، التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على كافة الأراضي المولدوفية، لكن لم يعترف الاتحاد السوفياتي المُشكّل حديثاً حينها بهذه الخطوة، وقام عام 1924، بإعلان منطقتي "بوكوفينا الشمالية"، و"بيسارابيان مولدوفا"، جزءاً من "جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية"، وأعلن من خلال تلك المنطقتين، تأسيس "جمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفياتية"، ككيان ذاتي الحكم داخل جمهورية أوكرانيا الاشتراكية، وكانت مدينة "تيراسبول" عاصمة هذه الجمهورية.
هذا التأسيس ظل خارج التفعيل خلال السنوات اللاحقة، إلا أن تم بموجب اتفاق مولوتوف-ريبنتروب بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، ضم موسكو جزءاً من النطاق الشرقي لمولدوفا، والذي يقع شرقي نهر "دنيستر"، ويشكل حالياً أراضي إقليم "ترانسنيستريا"، وبذلك تم عام 1940، التأسيس الفعلي لـ "جمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفياتية" على أراضي هذا الإقليم. لكن، فقدت موسكو هذا الإقليم وأجزاء كبيرة من أوكرانيا، خلال الهجوم الألماني-الروماني على الأراضي السوفياتية عام 1941، وظلت رومانيا مسيطرة على كامل الأراضي المولدوفية وأجزاء من جنوب أوكرانيا حتى عام 1944، حين استعادت موسكو سيطرتها على الأراضي الأوكرانية والمولدوفية كافة، وظلت "جمهورية مولدوفا الاشتراكية" قائمة منذ ذلك الوقت على الأراضي المولدوفية كافة ، حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990.
خلال فترة تولي الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، ووصولاً إلى عام 1990، كانت مولدوفا من أبرز الجمهوريات السوفياتية التي ظهرت فيها آثار الإصلاحات السياسية والاقتصادية "الجلاسنوست والبيريسترويكا"، التي تبناها غورباتشوف خلال المرحلة الأخيرة من فترة حكمه، ومن أبرز هذه الآثار كان تصاعد حدة أنشطة الحركات السياسية القومية داخل مولدوفا، وعلى رأسها "الجبهة الشعبية لمولدوفا"، التي كانت تميل إلى إعادة العلاقات مع رومانيا إلى سابق عهدها، وهو ما تمت مواجهته من جانب المناطق المولدوفية التي تقطنها أغلبية روسية الأصل، والتي شكلت حركات انفصالية مضادة، خاصة في إقليم "ترانسنيستريا" وإقليم "غاغوزيا" الواقع في أقصى جنوب مولدوفا.
التغيرات التدريجية في المزاج المولدوفي، أجبرت في أغسطس 1989، مجلس السوفيات الأعلى لجمهورية مولدوفا الاشتراكية، على إعلان اللغة المولدوفية لغة أساسية للبلاد، واعتماد الأبجدية اللاتينية الرومانية في اللغة المولدوفية، وبحلول عام 1990، فازت الجبهة الشعبية القومية بأول انتخابات برلمانية في مولدوفا، وهو ما تم اعتباره بمنزلة العد التنازلي لإعلان استقلال مولدوفا، الذي تم إعلانه من جانب البرلمان عام 1991. وقد سبق هذا الإعلان، تأسيس إقليم "ترانسنيستريا" وإقليم "غاغوز" كجمهوريتين مستقلتين من جانب واحد عن مولدوفا في أيلول/ سبتمبر 1990، وهو ما أسس لنزاع جغرافي وسياسي ما زال حتى الآن عالقاً من دون أي حلول.
رأت مولدوفا في التحركات الانفصالية في "ترانسنيستريا" و"غاغوز"، تهديداً مباشراً لها في ظل الظروف غير المستقرة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، لذا حاولت عدة مرات بين عامي 1990 و1992، عبور نهر "دنيستر"، والسيطرة على ضفته الشرقية، لكن كانت هذه المحاولات المحدودة تقابل بمقاومة شرسة من قوات إقليم "ترانسنيستريا". اتخذ الصراع في هذا النطاق شكلاً أكثر عنفاً في آذار/ مارس 1992، حين قتلت قوات الشرطة المولدوفية أحد قياديي قوات إقليم "ترانسنيستريا" في قرية تطل على نهر "دنيستر" تدعى "دوبيساري"، لتندلع معارك طاحنة بين قوات الإقليم المدعومة بمقاتلي قبائل "القوزاق" الروس من جهة، ووحدات الشرطة والجيش التابعة لمولدوفا.
كان لموسكو في إقليم "ترانسنيستريا"، وحدات عسكرية تابعة للجيش الـ 14، وهو قوة عسكرية كانت تتألف من 14 ألف جندي، القسم الأكبر منهم كان ينتمي عرقياً لإقليم "ترانسنيستريا". هذه القوات، التي ظلت متمركزة في الإقليم حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت عاملاً أساسياً من عوامل صمود قوات الإقليم أمام القوات المولدوفية، المدعومة من رومانيا.
في بداية المعارك، حاولت موسكو اتخاذ موقف حيادي، إلا أن مولدوفا اتهمتها بدعم القوات الانفصالية، وقامت في كانون الأول/ ديسمبر 1991، باعتقال القائد العام للجيش الـ 14، الفريق ياكوفليف، ولم تفرج عنه إلا بعد إفراج الجبهة الشعبية في "ترانسنيستريا" عن عدد من الضباط المولدوفيين الذين تم أسرهم في المرحلة الأولى من المعارك.
اللافت هنا أن ياكوفليف قام عقب الإفراج عنه، بالانضمام إلى قوات إقليم "ترانسنيستريا"، بمعية عدد من جنود الجيش الـ 14، وكان له لاحقاً دور أساسي في مسار استقلال الإقليم في ما بعد، رغم أن هذه الخطوة تسببت في عزله من قيادة الجيش الـ14 الروسي، واستبداله بالفريق ألكسندر لابيد، الذي حاول الحفاظ على قوام الجيش الـ14، إلا أنه قام لاحقاً بدور حاسم في النزاع العسكري الذي شهده هذا الإقليم، فقد بدا أن موسكو عدلت عن موقفها المحايد تجاه هذا النزاع، وبدأت في اتخاذ خطوات داعمة للقوات الانفصالية، لدرجة حدت بنائب الرئيس الروسي ألكسندر روتسكوي، بالسفر إلى عاصمة الإقليم "تيراسبول"، في نيسان/ أبريل 1992، وإلقاء خطاب أمام السكان هناك، حثهم فيه على المطالبة بالاستقلال عن مولدوفا.
بعد هذا الخطاب، بدأت وحدات الجيش الـ14، في دعم القوات الانفصالية نارياً وتسليحياً، مستفيدة من الكميات الهائلة من الأسلحة والذخائر السوفياتية، التي كانت مخزنة في منطقة "كوباسنا" التي تعد أكبر مستودع لتخزين الأسلحة في أوروبا كلها. بدأ الحسم الروسي في هذه المعركة بحلول تموز/يوليو 1992، حين نفذت المدفعية الروسية قصفاً مركزاً على مواقع تمركز القوات المولدوفية في الضفة الغربية من نهر "دنيستر"، وهو ما ألحق خسائر فادحة بهذه القوات، أجبرتها لاحقاً على إيقاف القتال بحلول الـ 11 من الشهر نفسه، والدخول في مفاوضات مع موسكو والقوات الانفصالية، شاركت فيها كوسيط منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وتم فيها تمثيل كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بصفة مراقب. أسفرت هذه المفاوضات عن توقيع الرئيس الروسي بوريس يلتسين والرئيس المولدوفي ميرسيا سنيغور، اتفاقاً لوقف دائم لإطلاق النار، نص على تأسيس قوة حفظ سلام مشتركة، تتألف من 5 كتائب روسية، و3 كتائب مولدوفية، وكتيبتين من إقليم "ترانسنيستريا".
نزاع مجمد آخر في شرق أوروبا
تحول إقليم " ترانسنيستريا" عقب انتهاء المعارك فيه، إلى نموذج آخر من نماذج "النزاعات المجمدة" في شرق أوروبا، والتي كان ظهورها من نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، مثلها في ذلك مثل ناغورنو كاراباخ وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. حرصت موسكو خلال العقود السابقة، على الحفاظ على سيطرتها ونفوذها داخل هذا الإقليم، فقامت بتعديل وضع الجيش الـ14، الذي تم حله في نيسان/ أبريل 1995، ثم تم تقسيم جزء من قوامه، بين قوة خصصت للمشاركة في وحدات حفظ السلام الموجودة في الإقليم، وبلغ قوامها 500 فرد، وبين قوة أخرى تمت تسميتها "المجموعة العملياتية الروسية في ترانسنيستريا"، وقوامها 1200 جندي، وتخضع مباشرة لقيادة منطقة موسكو العسكرية، وتم تكليفها بحراسة مستودعات الذخائر الضخمة في منطقة "كوباسنا"، وتتألف هذه القوة من لواء مشاة ميكانيكي وفوج صواريخ مضادة للطائرات، بجانب وحدات داعمة أخرى.
هذه القوات شكلت الحضور العسكري الأساسي في الإقليم طيلة الفترات الماضية، بالإضافة إلى القوات المحلية التي دربتها وسلحتها موسكو، وتتألف من نحو 10 آلاف جندي، مسلحين بأعداد محدودة من الدبابات وناقلات الجند المدرعة، وهذه القوات مجتمعة تقوم بشكل سنوي بمناورات مشتركة، كان آخرها في 2 شباط / فبراير الماضي.
إقليم "ترانسنيستريا"، الذي يحتفظ بشكل واضح بالرموز والمباني التي تنتمي إلى الحقبة السوفياتية، وهو ما ينعكس حتى على علمه الخاص، اعتمد خلال العقود الماضية بشكل شبه كامل على موسكو اقتصادياً ومعيشياً، رغم أن روسيا حتى الآن لا تعترف باستقلال هذا الإقليم، الذي لا يعترف به سوى الأقاليم الانفصالية المماثلة له، وهي أبخازيا وأوسيستا الجنوبية في جورجيا، وناغورنو كاراباخ الواقعة في الحد الفاصل بين أذربيجان وأرمينيا. من أمثلة هذا الاعتماد، تولي بلدية موسكو دفع المعاشات التقاعدية الخاصة بمواطني هذا الإقليم، البالغ عددهم ما بين 200 و400 ألف شخص، ناهيك بمنح موسكو جوازات سفر روسية لسكان الإقليم منذ عام 2002.
غالبية سكان الإقليم يعملون خلال أشهر الصيف في الزراعة، في حين يعتمدون في فصل الشتاء على المبالغ المحولة لهم من أقاربهم العاملين في الخارج، كما إن قسماً من هؤلاء يعمل ضمن المؤسسات الصناعية التي يسيطر عليها تكتل "شريف" الاقتصادي، الذي تم تأسيسه على يد ضابطين سابقين في جهاز المخابرات السوفياتية "كي جي بي"، الذي يمتلك السواد الأعظم من الأنشطة الاقتصادية في الإقليم، بداية من محال السوبر ماركت ومحطات الوقود، وصولاً إلى نادي كرة القدم الرئيسي في الإقليم، ومصنع الصلب الرئيسي الواقع في منطقة "رابنيتا". هذا المصنع يمثل جوهر النشاط الاقتصادي في هذا الإقليم، نظراً إلى أن إنتاجه ينافس المصانع المناظرة له في مولدوفا ورومانيا ودول أوروبا الأخرى، بسبب منح موسكو الغاز والمشتقات النفطية له ولكافة مناطق "ترانسنيستريا" بأسعار زهيدة لا تقارن بالأسعار التي تشتري مولدوفا بها الغاز الروسي، وهذا يضاف إلى حقيقة أن كافة الأنشطة الاقتصادية على أراضي هذا الإقليم، معفاة من منح الضرائب والرسوم لحكومة مولدوفا، وهي مبادرة كان مقصوداً بها تجنب أي توتر ميداني بين الجانبين.
اتسمت خطوات موسكو لإدامة سيطرتها على هذا الإقليم بالبطء والثبات في آن، فهي لم تعترف باستقلال الإقليم، رغم إجراء السلطات المحلية هناك في أيلول/ سبتمبر 2006، استفتاء لاستطلاع آراء السكان بشأن الانضمام إلى الاتحاد الروسي، صوت فيه 97.1 % من الناخبين لمصلحة الانضمام إلى روسيا. رغم هذا، شرعت موسكو في بعض الخطوات التي تمهد لهذا الأمر، فافتتحت في انتخابات مجلس الدوما الروسي عام 2011، مراكز اقتراع داخل الإقليم للمرة الأولى على الإطلاق، وهو ما حدث عدة مرات بعد ذلك، الأمر الذي أثار احتجاج مولدوفا، التي رأت في ذلك تمهيداً روسياً لاعتراف مستقبلي باستقلال هذا الإقليم، الذي يضم 7 مناطق إدارية، وتبلغ مساحته الإجمالية نحو 5 آلاف كيلو متر مربع. عادت سلطات الإقليم عام 2014، عقب ضم موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانية، للمطالبة بالانضمام إلى الاتحاد الروسي، إذ قدمت إلى مجلس الدوما طلباً رسمياً بهذا الشأن، علماً أن الإقليم الانفصالي الآخر في مولدوفا، والذي يسمى "غاغوزيا"، قام بدوره في العام نفسه بتوقيع اتفاقية عسكرية وأمنية مع موسكو.
حيرة بين موسكو وكييف والاتحاد الأوروبي
رغم العلاقات الوثيقة مع موسكو، يحتفظ إقليم "ترانسنيستريا" أيضاً بعلاقات مهمة مع أوكرانيا ودول أوروبية أخرى، خصوصاً أنه كان يعتبر من ضمن"ممرات التهريب" المهمة من أوروبا نحو ميناء أوديسا الأوكراني على البحر الأسود. خلال التوتر الذي ساد جنوب أوكرانيا عام 2014، على خلفية ضم روسيا شبه جزيرة القرم، تواصلت سلطات كييف وتيراسبول "عاصمة الإقليم" في ما يتعلق بأمن حدودهما المشتركة، وحينها كانت سلطات الإقليم تخشى من التأثيرات السلبية التي قد تطرأ على تدفقات الغاز والتدفقات المالية الواردة إليها من روسيا، خصوصاً أن كييف وضعت وقتها قيوداً على عبور أصحاب جوازات السفر الروسية خارج حدودها. يضاف إلى هذا خشية سلطات الإقليم على مدار السنوات الماضية، من تأثر استفادتها الحالية من نظام التفضيلات التجارية المستقلة في الاتحاد الأوروبي، الذي يوفر لمنتجات الإقليم وجوداً دائماً في الأسواق الأوروبية المختلفة، وهذا كان من نتائج توقيع مولدوفا اتفاقية للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي عام 2014.
كييف، من جانبها، عززت على مدار السنوات الأخيرة من دور الوساطة بين الإقليم ومولدوفا، وسهلت إجراءات السفر من الإقليم وإليه، وكذلك سمحت بسيولة التجارة عبر الحدود، من دون أن تجعل من هذا كله تكريساً للوضع الانفصالي القائم في الإقليم، وجدير بالذكر هنا أن نحو 54 % من صادرات هذا الإقليم ذهبت إلى الاتحاد الأوروبي عام 2021، وهو ما يجعل سلطات الإقليم تفكر ملياً في تبعات أي خطوات تصعيدية.
المخاوف الإقليمية تصاعدت مؤخراً بشكل مباغت بشأن ملف هذا الإقليم، بفعل الأحداث الغامضة التي شهدها على مدار 3 أيام متتالية، كانت بدايتها في الـ 25 من الشهر الماضي، بهجوم بالقذائف الصاروخية نفذه مجهولون على مبنى وزارة الأمن الداخلي في عاصمة الإقليم "تيراسبول"، وعلى مطار المدينة الذي على ما يبدو تعرض لهجوم بطائرة بدون طيار، وتزامن ذلك مع إطلاق للنار على مقر لوحدة عسكرية في منطقة "باركاني". في اليوم التالي، تم تفجير هوائيين اثنين من هوائيات الإرسال الإذاعي الموجودة في مدينة "ماياك" وسط الإقليم، ثم في اليوم الثالث تعرضت قرية "كوباسنا"، التي تحتضن مستودعات الذخيرة السوفياتية، لإطلاق نار جاء من طائرة مسيرة، قالت السلطات المحلية إنها جاءت من أوكرانيا.
هذه الأحداث أعادت للذاكرة عملية "جليفيتش"، التي قامت بها وحدات عسكرية ألمانية خاصة عام 1939، على مرافق الإذاعة في المدينة التي تحمل الاسم نفسه، لتبرير غزو الأراضي البولندية، إذ ترى كييف أن هذه الأحداث قد تكون تمهيداً من جانب موسكو، لتفعيل هذه الجبهة ضمن مجهودها العسكري في الحرب الأوكرانية، خصوصاً مع بدء التحرك العسكري الروسي نحو ميناء أوديسا على البحر الأسود، وهو الميناء القريب للغاية من هذا الإقليم، وتدلل كييف على هذا الرأي، بقيام السلطات في "ترانسنيستريا" بالبدء في تعبئة كافة الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و55 عاماً ، بحجة "تجديد قوة حفظ السلام"، وهو ما تراه كييف تحشيداً لتفعيل هذا المحور القتالي لاحقاً، وهذا يتناقض مع بعض المؤشرات الميدانية، من بينها حقيقة أن عمليات التعبئة قد بدأت فعلياً في 21 من الشهر الماضي، أي قبل وقوع هذه الهجمات.
تستند كييف في مخاوفها هذه أيضاً إلى بعض التصريحات التي صدرت عن أطراف روسية أو موالية لموسكو، من بينهم الرئيس البيلاروسي، الذي أظهر في بداية المرحلة الأولى من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، خريطة ظهر فيها بوضوح أن الخطة الروسية تتضمن انفتاحاً قتالياً نحو أوديسا من "ترانسنيستريا"، وهو المعنى الذي صرح به مؤخراً اللواء "رستم مينيكايف"، أحد قادة منطقة موسكو العسكرية، إذ قال بشكل واضح إن بلاده تستهدف فتح ممر بري بين الدونباس وشبه جزيرة القرم و"ترانسنيستريا". رغم وضوح هذه التصريحات، يمكن وضعها أيضاً في خانة الحرب الدعائية.
وعلى الرغم من وجاهة فرضية استعانة موسكو بقواتها والقوات الرديفة لها الموجودة في هذا الإقليم، لفتح جبهة جديدة نحو ميناء أوديسا، لكنّ الوضعين الاقتصادي والمعيشي السالف ذكرهما للإقليم، يجعلان دخوله في المعادلة الحالية في أوكرانيا، مخاطرة لها تبعات مدمرة على وضعه الداخلي، وهو ما يمكن قراءته من خلال المواقف المحايدة التي اتخذها هذا الإقليم من بداية المعارك في أوكرانيا، فقد تجنبت وسائل الإعلام المحلية فيه تغطية الأحداث في أوكرانيا، وكانت هذه التغطية في حالة حدوثها، تركز على مساوئ الحرب وضرورة إيقافها، وقد ركزت السلطات المحلية جهودها على مساعدة أكثر من 6 آلاف لاجئ أوكراني وصلوا إلى الإقليم، وهو ما ترافق مع تصريحات لوزير خارجية الإقليم، فيتالي إغناتيف، تحدث فيها عن العلاقات العميقة مع أوكرانيا، التي يحمل جنسيتها نحو 100 ألف من سكان هذا الإقليم.
سيناريوهات الوضع المستقبلي لإقليم "ترانسنيستريا"
المستقبل المنظور لهذا الإقليم لا يتعلق فقط بمشاركته في الحرب الأوكرانية من عدمها، بل تتسع سيناريوهات هذا المستقبل لتشمل استخدام موسكو ورقة هذا الإقليم، للضغط على مولدوفا، التي جددت مساعيها في آذار/مارس الماضي لدخول الاتحاد الأوروبي. محاولة الضغط الروسي على مولدوفا تتعلق بشكل أساسي بحقيقة أنه منذ تسعينيات القرن الماضي، حكم مولدوفا سلسلة من القادة الموالين لروسيا. ولكن هذا الوضع تغير عام 2020، حين تم انتخاب "مايا ساندو" كرئيسة جديدة للبلاد، وهي معروفة بميلها الشديد للاتحاد الأوروبي، ومناهضتها لروسيا، وسبق أن طالبت باستبدال القوات الروسية العاملة في قوات حفظ السلام في "ترانسنيستريا"، بمجموعة من المراقبين من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) ، ولوحت مؤخراً بطلب المساعدة من رومانيا وأوكرانيا، إذا ما واجهت هجوماً من جانب قوات الإقليم، التي تتفوق فعلياً على الجيش المولدوفي الذي لا يتجاوز عديد قوته العاملة 6 آلاف جندي، وهو التلويح الذي تلقته موسكو بتوجس، لأنه يعيد إلى الأذهان المطامع الرومانية في هذه المنطقة.
إذاً، قد تستغل موسكو هذه الورقة، وورقة الغاز الذي تعتمد مولدوفا على تأمينه بنسبة 100% على موسكو، للضغط عليها ومنعها من التحرك قدماً نحو الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن مولدوفا التزمت الحياد، الذي ينص عليه دستورها، خلال الأزمة الحالية في أوكرانيا، ولم تعط ذريعة كافية لموسكو كي ترفع من وتيرة التوتر معها. هذا الحياد ربما يتعرض خلال الفترة القادمة لاختبارات جادة، خاصة بعد توقيع رئيسة مولدوفا، مايا ساندو، قانوناً يحظر عرض رمزين روسيين لحرب أوكرانيا، هما الحرف Z المرسوم على الدبابات الروسية، وشريط القديس جاورجيوس الذي يحيي ذكرى نصر الاتحاد السوفياتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وكذا مطالبة ساندو الجيش الروسي، بسحب قواته من إقليم "ترانسنيستريا"، وترافق هذا مع تصريحات لوزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، حول رغبة بلادها في إرسال أسلحة حديثة إلى مولدوفا.
خلاصة القول إن ملف إقليم "ترانسنيستريا"، أصبح قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى صدارة الاهتمام الدولي، بعد فترة طويلة من السبات الذي تلا معارك عام 1992. المفارقة أن هذا الملف يمكن اعتباره ورقة رابحة مع كافة الأطراف، سواء كانت أوكرانيا أو روسيا أو مولدوفا أو حتى رومانيا. الكفة الروسية في هذه المعادلة تبدو هي الأثقل، بالنظر إلى تأثيرها الاقتصادي وحضورها العسكري في هذا الإقليم، لكن يبدو هذا كله مقترناً بنتائج المحور الغربي من الجبهة الجنوبية الأوكرانية، التي قد يكون التقدم أو التراجع الروسي فيها، محركاً أساسياً لورقة هذا الإقليم، نحو اليد التي تفرضها الظروف الميدانية من الأيدي التي سبق ذكرها.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.