أميركا تخشى عواقب عدم الوصول إلى اتفاق نووي جديد.
عاهدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها بألّا ترضخ للولايات المتحدة الأميركية يوماً منذ الثورة، وبالتالي فإننا نفهم اليوم لغة القوّة التي تتمتع بها في مواجهة التهديدات الأميركية المتكرّرة، بعد أن فضّت الولايات المتحدة الاتفاق النووي الذي أبرمته مع الدول الكبرى في العام 2015، وهي لغة لم تفهمها الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" حتى الآن، وربما تعرفانها، لكنهما تحاولان إخفاء حقيقتها أمام العالم.
إنَّ ما تطلقه أميركا و"إسرائيل" من تهديدات وتصريحات ناريّة حول الملف النووي الإيراني إنما يأتي من باب "نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً"، أو من باب "الَّذي نفخ في ماء البحر، لا يضرّه ما يفعله هذا الكائن". لذلك، تردّ إيران على هذه التصريحات بلغة هادئة وناعمة تحمل كلّ معاني العزة والإباء والشموخ.
في المقابل، لا تريد أميركا أن تصرّح بأن إيران أضحت قوة إقليميّة وعالميّة لا يمكن هزيمتها أو إرضاخها بسهولة، كما تفعل مع دول العالم الأخرى التي تراها في مقام متلقّي الأوامر، كما لا تريد أن تظهر أمام العالم بأنها ضعيفة أمامها عندما تقبل بالحوار من دون شروط وإملاءات.
أعلنت إيران أكثر من مرة أنها مستعدّة للرجوع إلى الاتفاق النووي، رغم أنها ليست الطرف الأول الذي انسحب منه، كما أعلنت أنها لا تقبل بأيِّ شرط أميركي، مهما علا حجمه، بل من حقّها أن تفرض شرطاً تعتبره يمسّ السيادة الوطنية، وهو رفع جميع العقوبات التي أعلنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وفي ذلك تعبيرٌ واضح عن رفضها أي تنازل عن موقفها الذي سبق أن أعلنته في اجتماعات كثيرة، فإذا أرادت أميركا أن تحفظ ماء وجهها، فعليها أن تضع إطاراً مقبولاً لمواصلة الحوار في فيينا، والذي سبق أن قطع مشواراً كبيراً في هذا المجال، حتى كاد الطرفان يوقّعان على وثيقة جديدة لولا حصول طارئ أوقف هذه المحادثات، مثل الانتخابات الرئاسية في إيران، وخروج الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان بصعوبة بالغة والأحداث التي صاحبته.
كما أنَّ إيران وهي تراقب الأوضاع الإقليمية والدولية، تعامل الولايات المتحدة الأميركية بالمِثل، فإن كانت أميركا تناور من أجل استغلال الوقت والضغط المباشر على إيران إعلامياً للحرب النفسية الدائرة بين البلدين، فإن الأخيرة تناور أيضاً من أجل كسب الوقت للإعلان عن تقدمها في تخصيب اليورانيوم إلى حدود 20%، وربما أكثر من ذلك، في محاولة منها للضغط على الدولة العظمى في العالم حتى تستجيب لمطالبها. من هنا نفهم العلاقة الجدلية بين البلدين، في ظل هذه الظروف الدراماتيكية التي تمر بها إيران في علاقتها بالدولة الكبرى عالميّاً.
وفي ظلِّ هذا التجاذب العالمي الذي تعيشه المحادثات الإيرانية الأميركية، تحاول "إسرائيل" من جهتها أن تُقنع الطرف الأميركي بضرورة ضرب إيران، لمنعها من الحصول على قنبلة نووية، وهو المنطق الذي ترفضه أميركا حتى الآن، أملاً بموافقة إيران على الانخراط طوعاً في المحادثات والمفاوضات، وطمعاً بالمساعدة التي تتلقاها من حلفائها وحلفاء إيران للتوسّط في هذا الملف الشائك، مثل روسيا والاتحاد الأوروبي وأطراف أخرى لها صلة قويّة بإيران، مثل تركيا وسلطنة عُمان وغيرهما.
لكنّ "إسرائيل" تبقى على الدوام متردّدة ومضطربة في موقفها تجاه إيران، رغم ما تقوم به من استفزاز واضح، سواء كان ذلك في سوريا عبر مهاجمة القوات الإيرانية المتمركزة في سوريا أو عبر هجمات سيبرانية تعطّل بها المراكز الحيوية في البلاد وتخلق شللاً اقتصادياً.
من هنا، نفهم الردود الإيرانيّة على مثل هذه الأعمال الاستفزازية الإسرائيلية بين الفينة والأخرى، وتبقى "إسرائيل" تفضّل الضربة العسكرية المباشرة والدقيقة للمفاعلات النووية الإيرانية بالتنسيق مع واشنطن، غير أنَّ هذا السيناريو ما زال بعيداً حتى الآن لعدة أسباب، أهمها التخوف الصهيوني من الرد الإيراني القوي الذي قد يصيب "إسرائيل" بالشلل التام، ويحدث خسائر كبيرة مادية وبشرية، وإلا، فإن إيران لقّنت الولايات المتحدة الأميركية دروساً في السابق رداً على تهوّر ترامب عندما أراد أن يختبرها.
لذلك، عمل الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن على خفض التوتر مع إيران واستخدام السلاح الدبلوماسي، لعله يكون مفيداً، حتى إنَّ قول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة في التعامل مع إيران، يعد مجرد تصريح لا أكثر، لأن أميركا غير قادرة الآن على مواجهة إيران عسكرياً، وهي التي تلقت للتو ضربات موجعة في أفغانستان التي طردتهم خائبين، وهي التي تعرَّضت لأسوأ موجة صحية في العالم أثناء جائحة كورونا، وهي التي شهدت عنفاً داخلياً غير مسبوق إبان الانتخابات الرئاسية، كلَّفت البلاد الكثير والكثير.
إنَّ أميركا المثقلة بالجروح تبدو اليوم ضعيفة أمام إيران، ولا تملك خيارات جريئة وكبيرة، وتحاول أن تظهر بمظهر القوي القادر على السيطرة على مجريات الأمور، ولو شكلياً وظاهرياً، لكن إيران تعرف خباياها، وتعلم أن الوقت لا يمرّ لمصلحة بايدن. لذلك، ترسم خطوطاً جديدة في مفاوضات فيينا تضغط بها متى أرادت، رغم أنَّها بحاجة إلى مثل هذه الاتفاقيات حتى تتنفس البلاد وتتخفّف من موجة العقوبات الاقتصادية التي قصمت ظهر الاقتصاد في البلاد.
ويبدو أنَّ هناك تأييداً كبيراً للوصول إلى اتفاق لبدء مفاوضات جديدة تستكمل المحادثات التي بدأت منذ أشهر، والتي حققت نتائج إيجابية على مستوى العلاقات مع وكالة الطاقة الذرية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية نفسها.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.