التطبيع تخلٍّ قبل التوقيع
كما شكّلت كامب ديفيد منعطفاً تاريخياً خيانياً في تاريخ القضية الفلسطينية تمثّل في الانقلاب على مبدأ اللاءات الثلاث، وكسر الحاجز النفسي بين الكيان المغتصب والشعوب العربية، فقد شكل الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي، منعطفاً جديداً تمثّل في الانقلاب على تفصيل مهم هو مبدأ "التطبيع قبل التوقيع". هذا المبدأ الذي شكّل بالنسبة للاستراتيجية العبرية، عنوان مرحلة ما بعد أوسلو ووادي عربة.
في عام 1996، كنت أشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب، لتوقيع كتاب "عالم صوفي"، وتبعاً لتقليد متبع عقدت جلسة حوارية بين عدد من الضيوف والرئيس حسني مبارك، وجه خلالها أحدهم إليه سؤالا حول التطبيع، فأجاب: "نحن جئنا إلى الحكم وبلادنا قد وقعت اتفاقية رسمية نحن ملزمون بها كحكومة، أما التطبيع، فأمر آخر". ثم التفت إلى المرحوم سعد الدين وهبي، رئيس اتحاد الفنانين العرب، الحازم والفاعل جداً في مقاومة التطبيع، قائلاً بلهجته المصرية: "مثلاً لو أنا قلت لسعد وهبة طبّع، دا مش حيطبّع، اعملّو إيه".
كان ذلك تجسيداً لمعادلة تضاد سادت الشارع العربي كله، حتى في الأردن وفلسطين، بعد المعاهدات. لم تستطع "إسرائيل" اختراق الوعي ولا محو الرفض والعداء لدى الشعوب، بل ولا جعل الحكام يفرضون على الناس ما قاموا بتوقيعه على الورق. وإنما على العكس ارتفع زخم لجان مقاومة التطبيع في كل مكان والتلقّف الشعبي لها. (لم تحصل حتى الآن، مشاركة أي إسرائيلي في أي فعالية ثقافية او رياضية أو فنية في الأردن مثلاً).
النموذج اللبناني قدم معادلة أخرى: لا فائدة من فرض معاهدة بالقوة والاحتلال، ما دامت هناك قوى شعبية فاعلة ترفضها وما دامت هناك دولة حدودية كبيرة فاعلة قادرة ومصمّمة على إفشالها.
لذا انتقل العدو إلى استراتيجية جديدة، فعلى صعيد دول الطوق لا بد من البدء بمحاصرة سوريا وخنقها كي تغلّ يدها، وعلى الصعيد العامّ لا بد من العمل على التطبيع مع الشعوب – بالتواطؤ مع الحكومات حيث أمكن – قبل التوصل إلى توقيع أيّ اتفاقيات. وبذلك يتحقق أمران أساسيان بالنسبة للأنظمة القابلة بالتعاون مع الدولة العبرية وأمران بالنسبة للأنظمة الرافضة:
بالنسبة لمن يريد التعاون، الأول: ضمان أن تؤتي المعاهدات أكلها ولا تقتصر على خطوات يعاندها الناس ويرفضونها ويفشلونها. والثاني: تجريد المفاوض فيما بعد من أي أوراق قوة.
أما بالنسبة للمانعين: فالأول تضييق مروحة الدول الداعمة لخيارهم وبالتالي محاصرتهم أكثر فأكثر، سواء على المستوى العربي أم الإقليمي أو الدولي، والثاني تسهيل عملية اختراقهم، حيث تتم عبر أدوات عربية يربطها بهم نسيج علاقات ومصالح على مختلف الصعد. ويندرجون معاً في إطار هيكل خرب اسمه جامعة الدول العربية، لم يتحرك ويفعل يوماً إلا لتدمير بلد عربي أو قضية عربية.
ولأن العمل على حرف وعي الشعوب ليس بالأمر السهل والسريع، كان الخيار الأمثل هو البدء بدول لا تشكل شعوبها كتلة بشرية يعتدّ بها (أعداد لا تعد إلاّ بمئات الآلاف سواء في البحرين أو الإمارات أو قطر) تتوه وسط أعداد بالملايين من الوافدين الذين تمت غربلتهم على مدى سنوات طويلة بحيث يتوافقون مع المقبل. وذلك مضافاً إلى أنظمة قمعية بشكل لا مثيل له في العالم، وتحت غطاء صمت فولاذي ثقيل لا تخرقه حتى وسائل الإعلام الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان المرتهنة كلياً للّوبيهات الا عندما يحتاج الأمر إلى ضغوط لتمرير صفقة. تهدأ الأمور بعدها وكأن شيئا لم يكن.
تأسيساً على كل هذا يتضح لماذا تمثل "الربيع العربي" في شيطنة وتدمير ديكتاتورية القذافي، ولم يضرب أحد بوردة ديكتاتورية أي دولة من دول الخليج. بل لماذا كانت الخطوة الحتمية الأولى قبل كل ذلك تدمير العراق، ليبدأ فوراً دور سوريا. لماذا تزامنت الضغوط الهائلة على سوريا مع الإغراءات الكبيرة للرئيس الأسد، ولاسيما من الطرف الفرنسي مفوّضاً من الأميركي وبالتنسيق مع الإسرائيلي، منذ عام 2003 (تاريخ سقوط العراق) وحتى عام 2011 (تاريخ اندلاع الحرب العسكرية على سوريا) ويتضح لماذا تركزت المطالب الرئيسية من الرئيس الأسد في ثلاث: الموافقة على فك ارتباطه بالمقاومات وبإيران، وبتمرير خطوط الغاز القطرية الى المتوسط، ولماذا شكل مبدأ التطبيع قبل التوقيع، عقدة المفاوضات إضافة إلى الأرض والمقاومة. ولماذا كانت كل من قطر والإمارات تعملان في الوقت ذاته، على الاختراق الاقتصادي المبرمج للوضع السوري طوال سنوات ما قبل الحرب، لتتحول إلى تمويل المعارضة السورية والجماعات الإرهابية خلال الحرب، ولتعود الإمارات اليوم بلبوس الود والتعاون الاقتصادي، لتشكل رأس حربة في المرحلة الأخيرة. (وهذا ما تفعله في بيروت مع حليفها الفرنسي المعلن وحليفها الإسرائيلي المسكوت عنه علها تحوز على الميناء).
أما تركيا، فقد حاولت أن تكون مظلة اتفاق سوري – إسرائيلي، استبقته باختراق جارف للأسواق السورية وعبرها إلى العربية، كي تضرب عصفورين بحجر واحد: تفرض نفسها عرّاباً لمشروع استسلامي يستكمله مشروع الاخوان المسلمين في جغرافية حلم السلطنة العثمانية، ولكنها تستبقه بحجز دورها أمام جرافة التطبيع الاقتصادي والثقافي الإسرائيلي، وفي خيرات البحار من غاز ومواقع استراتيجية.
يبقى لبنان، فهو الخاصرة التي تبدو رخوة، ولكن الأحداث كلها أثبتت أن الجزء الرخو فيه أقل فاعلية من جزئه الصلب، رغم كل ما يحقن به الأول من إبر المقويات التي تصلح لسباق الخيول. ولذلك لم يتوقف استهدافه.
وبين الجميع فلسطين ذبيحة العيد التي شطرت إلى نصفين وسلم كل جزء لمحور، كي لا تصل يوماً إلى الالتئام.
وإذا كان لا بد لأي فهم جيوبوليتيكي من أن يضع الموضوع في إطار ثلاث دوائر المحلي، فالإقليمي إلى الدولي. فإن اختيار الإمارات كمنصة انطلاق لا يعود فقط إلى المبررات الداخلية ولا إلى المبررات العربية، بل إنه خيار يندرج في إطار إقليمي يعنونه الصراع الإسرائيلي على النفوذ مع تركيا وعلى الوجود والمشروع والنفوذ مع إيران. الأولى تعتصم وراء محور وجدت وقوده الهائل مع التيار الاخواني، والثانية تعتصم وراء محور مقاوم ممتد من طهران إلى بيروت، وكلا المحورين يحظى بتحالفات دولية عريضة متشابكة. وصولاً إلى الإطار الدولي حيث يندرج الصراع في إطار تشابك بالغ التعقيد من العلاقات والمصالح: الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين من جهة. وبين روسيا (أو بالأحرى الاوراسية) وحلف الأطلسي من جهة ثانية، وبين الغرب وتكتلات أخرى ومحاور دولية منها ما تشكل ومنها ما هو آخذ في التشكل – لا نقصد بها فقط دول البريكس ومنظمة شنغهاي- وإنما يتعدى الأمر إلى صراع بدأ يتجلّى داخل الأطلسي نفسه بين أوروبا والولايات المتحدة، ما هو إلا ترجمة لتشكل خطين عالميين جديدين: خط العودة إلى الحمائية الوطنية وخط إعادة انتاج العولمة بصيغ جديدة.
صراعات تتركز في جوهرها على البعد الاقتصادي الذي يتركز بدوره على ثلاث: التكنولوجيا، الغاز والسيطرة على البحار. وفي كل هذا تأتي خطوة الإمارات ذات دلالة كبرى: التكنولوجيا الإسرائيلية تحتاج إلى مال الخليج، الغاز يتركز في البحار، وبه يفهم صراع خطين: فرنسي – إماراتي – إسرائيلي، وتركي – قطري (ضمناً إسرائيلي)، أما البحار من حيث كونها مواقع استراتيجية حاسمة فإنها تمثل الخطر الأكبر إذ إن وصول "إسرائيل" علناً ورسمياً إلى المحيط الهندي وبحر العرب والمضائق، واشتراكها مع شركة موانئ دبي في السيطرة على الساحل الأفريقي سيشكل الثقل الأكبر في مواجهة الصين ومشروع الحزام والطريق. سيطرة لم تتأخر الإمارات عن فرضها بالقوة، وذلك عبر تمويل وتوظيف ميليشيات محلية معارضة انفصالية، كما حصل في إقليم أرض الصومال بشكل مخالف لقرارات الحكومة الصومالية الفيدرالية في مقديشو.
صراع تتخيل الإمارات برعونة قادتها وغرورهم أنها ستكون صاحبة المصلحة الأولى فيه، ولكنها في الحقيقة لن تفعل أكثر من تطبيق شعار شيمون بيريز: التقاء رؤوس الأموال العربية مع "العقل الإسرائيلي" على حد تعبيره، لخدمة هيمنة "إسرائيل" على المنطقة والعالم.
هل نبالغ إذا قلنا إن بإمكاننا نحن الشعوب أو جزءاً منها، أن نحدد مصير كل المشاريع عبر مقاومة التطبيع ليس فقط مع "إسرائيل" بل ومع عملائها من العرب، وعبر تفعيل القوى الشعبية لدعم صمود الصامدين الى أن تتغير الموازين؟
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً