حرب الدواء ويالطا الجديدة
إذا كانت وثائق حروب الجيل الرابع والخامس تتحدّث كلها عن الحروب البيولوجية والجرثومية، فإن ما هو أخطر هو تحوّل الدواء، علاجاً أم لقاحاً، من مُجرّد نشاط عِلمي إنساني، إلى مُنتَج، كالنفط مثلاً، يقع في مجال صراع سوق، بما في ذلك من احتكارات وتسويق لا أخلاقي بين شركات. صراع قد تتمّ لأجله التضحية بمئات آلاف البشر.
وإذا كانت أزمة كورونا قد وضعت التوقيع على الصيغة القديمة للعولمة النيوليبرالية الأميركية، فإنها قد أعادت منطق الصراع إلى رأسمالية وطنية، تتصارع فيها الشركات للفوز بسبق إنتاج واحتكار الدواء واللقاح، من دون أن يعدم هذا الصراع، توظيفاً آخر داخل الدول الليبرالية نفسها بين هذا المعسكر أو ذاك، سواء لتسجيل المواقف السياسية، خاصة الداخلية، أو لتسجيل المكاسب الاقتصادية، ولكل شركاته. في هذا السياق يفهم الصراع داخل الولايات المتحدة نفسها وفي دول غربية أخرى كفرنسا مثلاً، كما يفهم بين الدول على مستوى العالم.
بدءاً بالولايات المتحدة، لأنها ساحة تنعكس على العالم، حيث بدا أن سلوك دونالد ترامب غير إنساني تدرّجاً حتى قرار الانسحاب جزئياً من تمويل منظمة الصحة العالمية. لكن الواقع يشي بأن الخصم المقابل لترامب هما إثنان: الديمقراطيون وهم يقفون على أعتاب الانتخابات المصيرية وبيل غيتس الذي يقف وراء المنظمة.
لكن المنظمة ليست الأمّ تيريزا، فعلى مدى السنوات الماضية كانت هدفاً لهجوم مجموعات عدّة، من ناشطي الحفاظ على البيئة، إلى ناشطي المجموعات المُهمّشة من سكان أصليين ومزارعين في أميركا وإفريقيا، إلى حركة الإيكولوجييات النسويات، التي تمثلها العالِمة الهندية فندانا شيفا، وتنشط في آسيا وإفريقيا وأميركا وفرنسا لأجل الحفاظ على جميع الحاضِنات الطبيعية من زراعية ونباتية ومنجمية وإنسانية وغيرها... وبالطبع يندرج صراعها ضد الشركات المُدمّرة للبيئة.
وإذا كانت العلاقة بين منظمة الصحة العالمية وحروب الزراعة لم تعد سراً، فإنه لم يعد سراً أيضاً أن بيل غيتس هو العنوان المشترك لكليهما. ومن هنا السؤال هو كيف تتموضع المنظمة في وسط الصراع المُحتدِم بين الشركات العالمية ومن ورائها الدول للوصول إلى لقاحٍ أو دواءٍ لكورونا ولاحتكار تسويقه؟
مشهد السباق المُحتدِم بين الدول والشركات على الخروج بدواء أو لقاح لـ"كوفيد 19" يحكمه شرطان مُتناقضان: الشرط الأول أن يحظى العلاج بغطاءٍ "دولي" كي يكون استثماراً مُربحاً للشركات المُتسابقة على براءات اختراع حصرية. أما الشرط المقابل فهو أن تستثمر ملكية اللقاح لصالح الدولة المموّلة، بعد ظهور شروخ بين بعض الشركات والدول التي ينتمي إليها أصحاب رؤوس أموالها.
وبنظرةٍ سطحيةٍ سريعةٍ تبدو الاصطفافات الدولية واضحة: الصين وروسيا وإيران من جهة، والولايات المتحدة والدول التي تدور في فلكها من جهة، والاتحاد الأوروبي خاصة ألمانيا وفرنسا. لكن عوامل كثيرة أخرى ومنها تأسيس شركة سعودية روسية مثلاً لتطوير الدواء يدّلنا على أن المشهد أكثر تعقيداً، ويرسم خريطة جديدة للعالم في مرحلة انتقالية بين نظامين.
يبّشرنا البروفيسور الروسي فالينتين كاتاسوف بأن الحرب الفيروسية لن تنتهي بانحسار الإصابات، وإنما عندما تصل أسواق الأسهم إلى الحضيض بحيث يتمكّن أصحاب الأموال من شراء الأصول ليبلغوا مرحلة جديدة من السيطرة على الاقتصاد العالمي (إلى هنا ينتهي الاقتباس من كاتاسوف).
لكن المُسيطرين على الاقتصاد العالمي لم يعودوا في جبهاتهم السابقة، ولم تعد مراكز السيطرة في الدولة العُظمى (أو في الدول الأوروبية) مُتّحدة المصالح.
أولى بوادر الصراع كانت معركة "الهيدروكسي كلوروكين"، عندما ظهرت أولى التقارير عن نجاعته من الصين حيث استعمل فعلاً، ثم من فرنسا حيث تولّت تجربته مختبرات ديدييه راؤول، الذي أعلن نتائج التجربة بنجاعة العقار، ليواجه باعتراضٍ من اللوبي المنافس الذي أغرق الإعلام بحملة تخويف من آثار جانبية للعقار من دون أن ينفي فعاليّته.
وظهر واضحاً أن هذا الصراع يتمّ بين لوبيين: اللوبي الكاثوليكي الفرنسي المؤيّد للاستقلالية بما فيها استقلالية الشركات الوطنية، ولوبي الشركات المعولمة مدعوماً باللوبي اليهودي، وقد لاقى هذا الأخير دعماً قوياً من وزيرة الصحة، إلى أن جاء خبر زيارة ماكرون إلى مختبرات ديدييه راؤول في جنوب البلاد ليحسم موقف الرئاسة من مصلحة فرنسا في حرب الدواء، وليعطي دفعة لراؤول والدولة العميقة واللوبي الكاثوليكي من ورائه. في الأثناء كانت دول كالأردن تستعمله في العلاج وترسله كدعمٍ إلى تونس من دون أي إعلان رسمي يدخل الدولة الصغيرة في حلبة الصراع.
أما أميركياً، فإذا كان الرئيس الأميركي قد تحدّث مرة عن نجاعة هذا العقار ثم صمت، لصعوبة تسجيل ملكيّته، لكنه بدأ باستيراده من الهند. الهند كانت قد رفضت بدورها السماح بتصديره للاحتفاظ به للداخل في بلد المليار نسمة، ثم عادت، مؤخراً، فأعلنت السماح بتصديره إلى عدّة دول من بينها ألمانيا. بعد أيام من إعلان الهند هذا، أعلنت ألمانيا البدء في تخفيف إجراءات العزل ابتداء من أول أيار/مايو.
المُستغرّب أن استيراد دول عدّة لعقار كلوروكين لم يتبعه أيّ إعلان رسمي عنه، لسببين مرجّحين؛ الأول أنه لا يمكن تسجيل ملكية العقار لجني أرباح طائلة، والثاني أن لوبي اللقاح لا يريد الإعلان عن دواء يُعطى للمُصابين فقط ويُقلّل الحاجة للّقاح الذي يُباع للجميع. هنا، وفي حين بدا التنافس بين أميركا ترامب وبين فرنسا جلياً في مسألة تطوير عقار، إلا أنهما وجدتا نفسيهما مجتمعتين في موقف متضرّر واحد من منظمة الصحة العالمية وبالتالي من بيل غيتس.
والواقع أن معركة فرنسا الخفية مع لوبي غيتس/منظمة الصحة كانت قد بدأت قبل ذلك. ففي تشرين الأول/نوفمبر 2019 ظهرت فندانا شيفا، الفيزيائية والناشطة الإيكولوجية الهندية التي ذكرنا أعلاه في برنامج "أنترفيو" على شاشة فرانس 24 الإنكليزية لتنتقد بيل غيتس متّهمة إيّاه بممارسة القرْصَنة البيولوجية على حبوب البذار القديمة، ومن ثم إعادة بيعها للمزارعين كاختراعٍ مسجّل، وبأنه يريد فرض الديكتاتورية الرقمية على مزارعي العالم. القناة الفرنسية ليست قناة خاصة، ولا تتحرّك بعيداً عن مصلحة الشركات الفرنسية التي باتت مُحاصرَة أميركياً في العديد من مصالحها، وبالتالي فإن فتح هذا المنبر لانتقاد بيل غيتس لا يحصل خارج سياق الحرب هذه.
من الجهة الأميركية يظهر تناقض مصالح الشركات في محاولة ترامب السابقة شراء حقوق حصرية للقاح من شركة "كيورفاك" الألمانية، بينما يساهم موقفه من منظمة الصحة العالمية في تعطيل جهود غيتس من ورائها لتطوير لقاح حصري.
لكن ليست كل أميركا في تنافس مع كل فرنسا، فثمة لوبيهات اقتصادية، هنا وهناك، وثمة معسكرات سياسية هنا وهناك وثمة بقايا عولمية ضد خط استقلالي حمائي.
على خط آخر، تحاول روسيا تلقّف الكرة عبر شراكة مع السعودية لبناء مركز ضخم لتطوير اللقاح، من دون أن تسحب الدعم العلني لمنظمة الصحة. لكنه من الواضح أنها منذ تصريحات آذار/مارس الماضي حول استعداد العلماء الروس لتجربة لقاحات على البشر في أيار/مايو، قد حجزت دورها في السباق الذي لا يعتقد أنها تنوي أن تتنازل عنه لغيتس أو لغيره. اللافت أن الإعلان عن المركز السعودي الروسي المشترك جاء بعد أيام من حثّ ترامب البلدين على إنهاء حرب النفط بينهما، قائلاً إن قادة البلدين يريدان الوصول إلى صفقة.
أما دوران دول عربية في فلك أميركا فقد بدا أيضاً أنه في فلك بعض أميركا، فالإمارات تشارك في دعم فريق غيتس عبر تمويل منظمة الصحة، وتهرب قطر من ذلك بإعلانها مُنفردة حقن الأصحّاء بمصل بلازما من دم الشافين، أي دون الحاجة للقاح مسجّل الملكية. فهل أصبحت الصين وروسيا وإيران والسعودية في جبهة، وبيل غيتس والإمارات الداعمين لمنظمة الصحة في جبهة الفريق المفاوض؟ بينما فرنسا وفريق ترامب وألمانيا يحاولون، معاً أو كل على حِدة، ألا يقعوا تحت رحمة لقاح إجباري تطوّره شركات غير مملوكة لهم. ولا شك في أن كل فريق يحاول ترصيد موقفه الدوائي سياسياً على ساحته الداخلية أولاً ومن ثم خارجياً. ولذا رأينا أنصار ترامب، وبعض معارضيه، في أميركا يُهلّلون لموقفه من منظمة الصحة العالمية. ونقرأ تعليقات من مثل: "هذا خبر يحتفل به حقاً، بعد إعلان منظمة الصحة على لسان د.ريان أنها ستدخل البيوت لأخذ أفراد العائلة المُصابين"، أو "خبر جيد، منظمة الصحة العالمية هي مركبة بيل غايتس لفرض التطعيم الإجباري علينا وحقننا بميكروتشبز رقمية تعيدنا إلى عصر العبودية" أو "أحقاً قام ترامب بشيء جيّد أخيراً؟".
الصين لم تبد مهتّمة بحرب اللقاح حيث سبقت الحرب بخطوة حين أعلنت أن السبيل الوحيد لمُحاربة الوباء هو في الهويات الرقمية التي تتيح التعقّب عبر تكنولوجيا الهاتف الخلوي، وفعلاً استعملت الصين نظام الرمز الصحّي الرقمي للتحكّم في تحرّكات الناس. وبالرغم من أن نظام الرموز الصحية لم يصبح إلزامياً بعد، إلا أن المواطنين في المدن الكبرى لا يستطيعون مُغادرة تجمّعاتهم السكنية أو دخول معظم الأماكن العامة من دونه.
في 2015 ظهر بيل غيتس في فيديو على منصّة "تيك توك" ليؤكّد أن العالم في وقت الوباء الكبير القادم يجب أن يدخل في نظام معتمد على تكنولوجيا الاتصالات وخرائط الساتلايت التي تتابع حركة الناس والاستثمار فيها بما يساوي الاستثمار بالسلاح لاحتواء وباء عالمي غير مسبوق، ثم تطوير لقاح له. لم يترك غيتس احتمالاً لمصلٍ ولا دواء، فقط تحدّث عن لقاح للوباء. وباء تنبّأ منذ خمس سنوات بأن حامليه لا يشعرون بأعراضه بداية بحيث يركبون الطائرات وينشرون العدوى. لم يقف سيناريو غيتس هنا، بل تحدّث عن ضرورة ربط الطواقم الطبية بالجيوش في الدول الفقيرة، وهذا تحت إمرة النظام الصحّي العالمي المرجو. وبينما توقّع أن يتسبّب وباء إنفلونزا مُستجدّ بخسارة ثلاثة تريليونات دولار للاقتصاد العالمي، استنتج أن أيّ مبلغ يستثمر من دون ذلك سيكون مُجدياً.
لم يضاهي حماس غيتس في 2015 نشوته في الأسابيع الماضية وهو يتحدّث عن اللقاحات الإجبارية، في مقدّمة لإعطاء الناس الرموز الصحية الرقمية التي تتيح تعقّبهم. لكن إعلان ترامب تعليق دعم منظمة الصحة العالمية رفع الغطاء الدولي عن برنامج غيتس، بينما سبقته الصين مُتجاوزة موضوع اللقاح.
لم تنته حرب الشركات بين غيتس وترامب هنا، حيث أطلّ الأمين العام للأمم المتحدة في ما يشبه التهديد ليقول ألا شيء يمكن أن يحقّق العودة إلى الحياة الطبيعية سوى اللقاح. في نفس الوقت تنبّهت وسائل الإعلام الإيرانية إلى أن الرجل الذي يقف وراء منظمة الصحة العالمية ليس أقل خطراً من ترامب، على حد تعبيرها.
يبدو أن غيتس لم ينجح في التعامُل مع قواعد اللعب الجديد مع تغيّر اللاعبين وكثرتهم في زمن الوباء القادم رغم تنبّهه لها منذ 2015، اللّهم إلا جَنْيه أرباحاً طائلة من استعمال برامج التعليم عن بُعد، في حين يخوض معركته على صعيد احتكار الدواء. فخرائط دمج الشركات وفق مؤشّرات الأسهم في تغيّر مستمر، من ذلك أن الصين قد زادت امتلاكها لأصول الشركات في بداية أزمة كورونا.
العالم يتغيّر والتحالفات ستصمد بقدر صمود تركّز اقتصاد الدول في يد سلطاتها المركزية. ترامب بلا شك يفاوض منظمة الصحة على حصّة كبيرة من الكعكة والسيطرة على القرار، لكن المراهنين على سوق الصحة اليوم ليسوا متأكّدين من موقعهم في خريطة ما بعد كورونا، فيما تبدو أصوات الداعين لحرية اختيار العلاج وتفعيل الطب الهندي والصيني وصولاً إلى كسر احتكارات الشركات الكبرى غير مسموعة في "المعسكرين".
ويبقى الإنسان هو الذي يدفع الثمن في منطق المعسكر الرأسمالي المتوحّش. الثمن ليس فقط من صحّته الجسدية وإنما النفسية والعقلية أيضاً.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً