حروب الأجيال الجديدة.. لماذا؟
الحروب هي الحروب مذ عرف الإنسان إخضاع خصمه بالقوّة، إما القوّة العسكرية المباشرة وإما قوّة الضغط النفسي والاقتصادي التي نظّر لها الجنرال الصيني "صن تزو" قبل 2500 سنة في كتابه "فن الحرب"، إذ يقول: "أن تخضع عدوّك من دون قتال، تلك قمّة المهارة".
المهارة، عسكرية كانت أو ناعِمة، تتوقَّف منذ عصور أيضاً على الأدوات، والأدوات تحدّدها النظريات والتكنولوجيا ومدى تطوّرها، علوماً وتطبيقاتٍ، عِلماً بأنَّ المهارة الناعِمة تتقاطع مع المهارات العسكرية القتالية بحسب ظروف الصراعات.
في العام 1989، كان العالم يصغي إلى قرقعة جدار برلين، إيذاناً بانهيار كامل بناء الكتلة الشرقية، فيما سجّل انتصاراً أميركياً في سياق الحرب الناعِمة، أدّى إلى نظام عالمي جديد يقوم على ثلاث قائمات: سياسية تتمثّل في هيمنة الأحادية الأميركية، اقتصادية تتمثّل في إرساء اقتصاد السوق المعولَم، واتصالية تقوم على قوّة وسائل الاتصال، فيما يعني أنَّ من شأن القائمتين الثانية والثالثة أن تؤمّنا تدعيم الأولى في عملية تبادلية تفاعلية، وأن توفّرا على الإمبراطورية الناشئة ضرورات الحروب العسكرية وتكاليفها. وهكذا قرأنا للمرة الأولى عن مصطلح جديد هو "حروب الجيل الرابع"، وذلك في مقالة للخبير العسكري الأميركيّ وليام ليند، الذي كان من ضمن الفريق الذي طوّر هذا المفهوم، ثم عاد وطوّر طروحاته في مقالة مُشابهة نشرها في العام 2004 بعد أن رافق الجيش الأميركي في حرب أفغانستان.
في العام 2017، كانت الإمبراطورية الأميركية تشهد اهتزاز عرش أحاديتها، وتبحث عن وسائل قوّتها المتطوّرة للدفاع عنه. وفي مدينة سان لويس- ميتسوري، عقدت وكالة الاستخبارات الدفاعية (DIA) بين 13 و16 آب/ أغسطس 2017 مؤتمراً تحت عنوان "نظام ذكاء الكومبيوتر في جميع أنحاء العالم" (الاتصالات اللاسلكية– مؤتمرات الفيديو– إدارة تطوير تقنيات الكومبيوتر)، أعلن مدير الوكالة المذكورة، الجنرال فنسنت ستيورات، في ختامه، أنَّ أميركا تدخل جيلاً جديداً من الحرب هو "الجيل الخامس". وقال: "في كثيرٍ من الأحيان، نجد أنفسنا طرفاً في الحرب من دون الاستخدام المباشر للسلاح الحركي ضد العدو... إنَّ حروب الجيل الخامس لم تعد معركة استخدام المعدّات العسكرية مثل (F-35)، بل قتالاً لأجل المعلومات".
بين ليند وستيورات خبراء كثيرون نشروا نتائج أبحاث فرق عمل مهمة تابعة للبنتاغون الأميركي حول المفهومين، من مثل المُحلّل العسكري راي البرمان، الَذي بنى أبحاثه على "خطط التلاعب الزماني والمكاني وإرساء حسّ اللاجدوى لدى المقاومين"، والمحقّق توماس برنت الذي ركّز في العام 2003 على نقطة "تعطيل الوعي"، وذهب إلى "استعمال الأسلحة البيولوجية".
إذاً، هما مفهومان ومصطلحان أميركيان، ومنظّرون خبراء عسكريون أميركيون، والسؤال المهم: لماذا؟.
نحن أمام تاريخين؛ الأول هو تاريخ بداية الإمبراطورية وحاجتها إلى إرساء هيمنتها، والآخر هو تاريخ انحسار هذه الهيمنة الأحادية وحاجة الإمبراطورية إلى الدفاع عنها.
مع البداية، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعرف أن عولمتها ستواجه بثلاثة تهديدات: الرافضين المقاومين– الخصوم الصاعدين– الحلفاء المهدّدين (بكسر الدال). في الخانة الأولى، تندرج جميع دول المقاومة وحركاتها من العالم العربي والإسلامي إلى أميركا الجنوبية إلى بعض دول آسيا. أما الخانة الثانية، فتتصدّرها الصين، ومن ثم روسيا، ومن ثم التكتلات العالمية الآخذة في التشكّل. وأخيراً، الخانة الثالثة المتمثلة في الاتحاد الأوروبي بشكل خاص.
كان لا بدَّ من بعض الحروب العسكريَّة لإرساء النظام، ولكن لا مجال لمكافحة جميع هذه الأخطار بالعنف العسكري. وهنا تبرز الحاجة إلى أجيال جديدة من الحروب لإضعاف الجميع أو إخضاعهم، فكانت حروب الجيل الرابع، ومن ثم تمَّ تطويرها إلى حروب الجيل الخامس، وبخاصّة بعد أن أثبتت حربا أفغانستان والعراق أن التدخّل العسكري سجّل فشلاً لا تتحمَّله الولايات المتحدة مرة ثالثة، فتكلفته المادية لا يتحمَّلها الاقتصاد، وتكلفته البشرية لا يتحمّلها المجتمع، وكلاهما لا تتحمَّلهما الأنتلجنسيا الحاكمة، لأنهما كفيلان بالقضاء على سلطتها، بما تجاوز الحاجة القديمة إلى استباق الحرب العسكرية ومواكبتها بالحرب الناعِمة والحرب النفسية ودعاية الحرب إلى إحلال الحروب الجديدة كبدائل من العسكرية.
في هذا البديل، تتمثّل قوّة الإمبراطورية في تقدّمها الهائل في امتلاك سلاح جديد هو تكنولوجيا الاتصال وامتلاك المعلومات؛ سلاح تجعل العولمة من العالم كلّه مسرحاً لما يديره ويوزعه من تكنولوجيا ومعلومات، بحيث أصبحت وسائل الاتصال، كما قال المنظّر الأكبر بريجنسكي، "الوسيلة الأولى للهيمنة على العالم".
وهكذا تشكَّلت محطات ارتبطت بتطوّر المفهومين. المحطَّة الأولى هي حرب يوغوسلافيا، حيث جرى تطبيق استراتيجية تزاوج خطير بين حرب الجيل الرابع والحروب التقليدية عبر مجريات الاحتجاج الشعبي من جهة، وقصف حلف الأطلسي للبلاد بعد أن أنهكتها الاحتجاجات من جهة ثانية. هناك برز بوضوح دور ما سمّي بـ"بمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية" والثورات اللاعنفية الملوّنة، التي بدأت على يد طلاب في جامعة بلغراد، ليظهر بعد انتهاء الأحداث ارتباط هؤلاء الوثيق بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ولتصبح المنظمة التي أنشأوها باسم "أوتبور" وقبضتها (اللوغو) دليلاً عالمياً على الثورات الملوّنة اللاعُنفية التي انتقلت كالنار في الهشيم من قارة إلى أخرى، وهي لا تشتعل إلا لتصبّ في صالح الاستراتيجيات الأميركية (الميادين)، بل وتصرّح أنّ هدفها النهائي بعد الدول المُتناثرة هو روسيا والصين. في خطٍ موازٍ، جاء توظيف الإرهاب وجمعه ودعمه، وإن بشكل غير عَلني، عبر عدد من المنظمات التخريبية الإرهابية، ليس "داعش" الوحيد في سياقها.
المحطة الثانية تمثّلت في حرب أفغانستان. وعلى الرغم من أنَّ وسائل الاتصال الأميركية والأجهزة السرية قامت بدورها، فإنّ مفاجأةً واجهت الأميركيين، ولا سيما في طورا بورا، وعبَّر عنها وليام ليند الذي كان يرافق الجيش بما أسماه: "مفاجأة القصور المعرفي حول طبيعة البلاد"، إضافةً إلى عدم التركيز الكافي على "أهمية الغزو الثقافي" – النفسي للبلد المستهدف، وتوظيف هذا الغزو في عملية "كَسْر الإرادة".
هذا المُعطى تمثّل أكثر في حرب العراق (التي حلَّت ثانيةً بعد أفغانستان في العام 1991 وثالثةً في العام 2003). وهنا كانت الحاجة إلى القوّة العسكرية الساحِقة ضروريّة (ولكن بعد إنهاء الحصار)، فضلاً عن إيجاد المتعاونين. وهناك تم التركيز خلال الحصار وبعد الاحتلال على الغزو الثقافي والنفسي والتعرّف إلى البلد جغرافياً وديموغرافياً (وهنا أورد ليند توقيت إعدام صدّام حسين وإخراجه كضربة نفسية لمَن يعمل على المقاومة).
في العام 2006، سجّلت محطة أخرى جعلت الباحث الأميركي يحلّل الحال ويركّز أكثر على الغزو الثقافي والاتصالي، فقد كلّف جون روب، الطيّار السباق في وحدة العمليات الخاصَّة في الجيش الأميركي، بدراسة المقارنة بين حرب العصابات وحروب الجيل الرابع، ليصل إلى الاختلاف الجذري بينهما، وليبني عليه ضرورة "التركيز على العامل الثقافي والمعرفي في نقاط قوّة العدوّ، لتحويلها إلى نقاط ضعف يسهل مهاجمتها وإصابتها بخسائر فادحة".
وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظتين، تعود الأولى إلى تاريخ عُلماء الاتصال في الولايات المتحدة الأميركية ودورهم الدائم في خدمة البنتاغون، منذ أن كلّف المؤسّس الأول هارولد لازويل بإدارة قسم إعلام الحرب العالمية، وإلى مرحلة حروب العصابات العقائدية التي شنّها اليسار في الخمسينات والستينات في وجه الإمبريالية الأميركية في عدّة مناطق من العالم، وبخاصة أميركا اللاتينية وآسيا (وخصوصاً فيتنام).
يومها، كلّف البنتاغون إيثيل دو سولا بوضع أوَّل استراتيجية اتصالية لمُكافحة هذا النوع من الثورات، وأُنجزت بعنوان "Conter-insurgincy"، ما ترجمته: "مُكافحة التمرّد"، تجنّباً لاستعمال كلمة الثورات بما تحمله من معنى إيجابي ولإحالتها إلى مُجرّد حركات تمرّد. وباختلاف المرحلة، صار لا بدَ للمؤسسة العسكرية من إيجاد خطَّة جديدة تمثلت بحروب الجيل الرابع، ثم تمّ تطويرها إلى حروب الجيل الخامس القائمة على المعلوماتية والدعاية والإعلام، والتي حدَّد الجنرال ستيوارت بعض خصائصها بما يلي:
-طُرُق قمع الأعداء وحرمانهم من القُدرة على المقاومة، وهي طُرُق تتجاوز الأشكال التقليدية للنشاط العسكري.
-العديد من الدول المستهدفة لا تشكّ حتى في أنها تعيش فعلاً حرباً شُنّت ضدها، حيث يبذل معسكر المهاجمين كل ما في وسعه لإنشاء السياق الضروري لتدمير النظام المُستهدَف.
-ضمان أنظمة الكومبيوتر وشبكاته في الولايات المتحدة الأميركية وموثوقيَّتها، فضلاً عن ضمان الأنظمة المناسبة للحفاظ على أمنها.
-أن تكون هذه الأنظمة والشبكات مُستعدّة للمناورات المناسبة للردّ على تصرّفات أعداء الولايات المتحدة. وعندها سيكون قطاع التكنولوجيا مساوياً في عمله للدولة.
في العام 2009، أدخل حلف شمالي الأطلسي مفهوم حروب الجيلين الرابع والخامس كمفهوم استراتيجي في عمليات الأطلسي، وذلك ما تنبَّه إليه الروس، فأعلنوه عبر "سبوتنيك"، وعقدوا مؤتمراً خاصاً حوله في وزارة الدفاع تحت عنوان "الجوانب السياسية والعسكرية للأمن الأوروبي"، ركَّزوا فيه على ما حصل في أوكرانيا وجورجيا، من دون أن ينسوا الربيع العربي.
في العام 2012، عقد ماكس مانورينغ، الأستاذ الباحِث في الاستراتيجية العسكرية الأميركية، ندوةً في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، قال فيها: "الحرب هي الإكراه. قتالاً، كما اعتدنا، أو غير قاتل، كما هو الجيل الجديد من الحرب. تُستخدم كلّ الوسائل لخلق دولة ضعيفة منهكة تستجيب للنفوذ الخارجي... فإذا فعلت ذلك بطريقة جيّدة وببطء كافٍ، واستخدمت مواطني الدولة العدو، فسيستيقظ عدوّك ميتاً".
أما الملاحظة الثانية والختامية، فهي أنَّ نجاح هذه الاستراتيجيات ليس قدراً، إلا إذا جهلناها، وإذا لم تتوقّف معرفتنا بها على الكلام والعرض، بل بادرنا إلى فَهْم تطبيقي لكلّ تفصيل في واقع ما يدور حولنا في ضوء هذه المعرفة، وانتقلنا إلى البحث عن مواقع القوّة وتدعيمها لتأمين إمكانية المواجهة.
كتب صحافيان أميركيان في "وول ستريت جورنال" أنَّ هناك انتقادات قاسية وُجِّهت في الولايات المتحدة، وضمن الإدارة نفسها، إلى الذين باعوها خططاً ادعوا أنها قادرة على النجاح خلال 24 ساعة، ولكن مثال فنزويلا أثبت العكس. وأضاف الصّحافيان بأنَّ الولايات المتحدة اخترعت السلاح النووي، ولكنها عجزت عن احتكاره.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً