ألتيانكسيا وكورونا
ما بعدها لن يكون كما قبلها. هذه المخلوقة التي أصرّت على أن تكون أقوى عابرة للحدود والقارات، وجد الجميع أنفسهم مضطرين إلى مقاومتها بأن يلتزموا بأكبر قدر من الحمائية.
لم يحتج الأمر إلا إلى فيروس مجهري لتترجم المعركة الكبرى بين العولمة النيوليبرالية والحمائية الوطنية، وليضطرّ الجميع إلى الاصطفاف مع الثانية بشكل قاطع، لتسقط أمام هذا الاختبار الرهيب سلسلة رهيبة من المسلّمات التي ارتقت حدّ المقدسات لدى ثقافة كادت تسيطر على العالم الغبي.
أول هذه المسلمات سقوط وهم تفوّق الديموقراطية الغربية كنظام حكم أمثل للعالم، فبصرف النظر عن كيفية نشوء الفيروس، ها هي الصين، الدولة الأكبر في قائمة الدول القليلة التي ما تزال ترفض الالتحاق بهذه اليوتوبيا، تنتصر على الوباء في مهلة قياسية، وترسل المساعدات إلى الدول الصناعية الكبرى، بدءاً من المنكوبة الأولى إيطاليا، لتلاقيها هناك مساعدات وطواقم من روسيا ومن الجزيرة الصغيرة المحاصرة - بسبب نظامها المختلف - من قبل أكبر ديموقراطية ليبرالية في العالم منذ نصف قرن، في حين تلتحق نيويورك بإيطاليا، وتدخل فرنسا وألمانيا وإسبانيا حيّز الفضيحة.
بالطبع، لم تكن الشمولية ولا الاستبداد هي ما جعل الصين متفوقة، ولا ما جعل روسيا تنهض من كبوة غورباتشوف ويلتسين، ولا ما جعل كوبا تحدياً استثنائياً ناجحاً، وإنما هي مجموعة عناصر نجاح هنا، ومجموعة عناصر فشل لدى العالم الليبرالي، بل النيوليبرالي.
العنصر الأوّل هو الإيمان بالدولة، وبالدولة المركزية القوية، وبدولة الشعب، لا الشركات العابرة للشعوب. وها نحن نرى جميع الدول، من الصين إلى أصغر دولة، تنجح في احتواء الوباء حيث تكون الدولة المركزية قوية وممسكة بالزمام، وتفشل حيث تسود دولة عميقة قائمة على الخصخصة المتوحشة غير المضبوطة، فمنذ أن سعى الليبراليون إلى إضعاف الدولة، إلى أن اعتبر النيوليبراليون أن شرط نجاح العولمة يقوم على شرط نجاح اقتصاد السوق اللامحدود، ما يقتضي إضعاف الدولة حد الإلغاء، سواء بهيمنة سلطة المال الخاص أو بكسر الحدود والسيادات، الحدود بين الدول أو الحدود بين الحق في الربح لصالح من أسماهم إيناسيو رامونيه منذ العام 1990 "سادة العالم الجدد"، الشركات. منذ ذلك الوقت، وضع العالم أمام تحدٍّ كان يحتاج إلى عولمة فيروس خبيث ليثبت أي الرهانات هو الأصح.
وفي هذا السياق، شهدنا افتضاح ما عملت الدول الغربية على جعله مدخلاً للتسلل إلى جسم دول العالم الثالث ونخره بوسائل كثيرة، ألا وهو منظمات المجتمع المدني التي تموّلها الدول الغربية بملاليم (والكسرة بيد الشحاذ عجيبة)، لتصل إلى إخضاع بلادها ونهبها بالمليارات، وذلك تحت ستار دعاوى الديموقراطية وحقوق الإنسان. وقد اختفت هذه المنظمات التي أريد لها أن تكون ذراعاً غربياً يشكل بديلاً للدولة، وانكفأت إلى جحورها، لتكون الدولة وحدها هي القادرة على حماية مواطنيها.
العنصر الثاني هو أن نمذجة الأنظمة السياسية والاجتماعية بشكل متماثل موحّد كبزّة جيش، وتجاهل الخصوصيات الثقافية والتاريخية والاقتصادية والجغرافية للدول والمجتمعات، لإجبارها على تبني النموذج الغربي عموماً، والنيوليبرالي الغربي بشكل خاص، أثبتا فشلهما كفشل كل ما هو مخالف لطبيعة الأشياء. وهنا يبرز مثالان: الصيني والروسي.
لقد عُرف النظام التاريخي الصيني بنظام ألتيانكسيا. وعندما اعتنقت الصين شيوعية ماو تسي تونغ، كان الأخير قد حاول أن ينهل من التراث الثقافي الصيني لبناء تيانكسيا جديدة، وهكذا استمرّ خلفاؤه... فلم تكن الصين شيوعية كالاتحاد السوفياتي، ولا ليبرالية كأوروبا وأميركا. وبهذا حافظت على تصاعد قوتها من دون أن تخسر ذاتها.
وكان من أهم بنود ألتيانكسيا: مركزية الدولة، فقد فهم المسؤولون أن بلادهم لم تخسر إلا عندما ضعفت السلطة المركزية، وهذا ما يقوله تاريخ الحروب الأهلية والمجاعات وحروب الأفيون والاجتياحات الأجنبية.
وكان من بين هذه البنود أيضاً تجنّب الدخول في حروب مع الجوار لأجل ضمان تمتين الذات. والأهم هو تجذير الثقافة الوطنية العريقة، والسماح بالانفتاح التدريجي على العالم، بما فيه الغربي، ولكن بعد تحقّق منجز القوة والعلم والحضارة والاقتصاد، ليصبح المواطن مقبلاً على تفاعل مع الحضارات الأخرى، وليس زاحفاً أمام تبعية.
ومن المؤشرات الدالة في هذا المجال، نسبة إحصائية تقول إنّ ملايين الطلاب الصينيين يوفدون للدراسة في الخارج، ولكن أكثر من 90 في المئة منهم يعودون فور انتهاء دراستهم. أما الذين يبقون، فيقيمون استثمارات ذات طابع صيني بحت في أماكن تواجدهم.
كذلك، يقول ألكسندر دوغين، منظّر روسيا الأوراسية الجديدة، في كتابه "أسس الجيوبوليتيكا- مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي": "المصلحة العليا لروسيا تتمثّل في الحفاظ بأي ثمن على فرادتها، والدفاع عن خصوصيتها أمام تحدي الغرب وتقاليد الشرق... الواقعية التاريخية تطالبنا بالاعتراف الشجاع بأن التأكيد على ما هو خاصّ بنا يسير متوازياً مع ما هو غريب عنا وما ليس لنا. وهذا التأكيد والرفض هما ما يمثل العناصر الأساسية للاستقلالية القومية الثقافية التاريخية والسياسية للشعب والدولة".
العنصر الثالث يتمثّل في مواكبة العصر، وخصوصاً في مجال القوة الأول فيه: التكنولوجيا وتوظيفها لتنمية مختلف القطاعات، الزراعية والصناعية والعلمية والطبية والعسكرية... كوسيلة أولى للحفاظ على الاستقلالية ومنع الإلحاق والهيمنة. فمنذ الثمانينيات، قال رونالد ريغن، سيد النيوليبرالية، إن التهديد الأكبر يكمن في القوة التكنولوجية للصين، ولكنه توقّع أن ينهار الحزب الشيوعي الصيني كارتداد تلقائي لانهيار الاتحاد السوفياتي، وأن تتمكَّن الولايات المتحدة من الهيمنة على البلاد عبر تعميم عولمة الديموقراطية الغربية، العولمة النيوليبرالية.
وعندما لم يحصل ذلك، قام بيل كلينتون في العام 2000 بالموافقة على انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، مبرراً ذلك بأنّ لبررة الاقتصاد ستؤدي إلى لبررة الدولة كما يلحق ذنب الأفعى برأسها، على حد تعبيره.
بعدها بسنتين، خرج جورج بوش ليقول: "ستعلم الصين أن الليبرالية هي شرط عظمة أي أمة"، ليكمل مدير "أف بي أي" أن التهديد الصيني يسقط على المجتمع كله.
في العام 2011، قالت هيلاري كينتون: "الصينيون يحاولون تمديد عمر الحزب الشيوعي الصيني لمنع التحولات، ولكن عبثاً، لن يستطيعوا...". بعد ست سنوات، في العام 2017، جاء التصريح الأخطر والأوضح في خطاب رئيس الأركان أمام مجلس الشيوخ، حول استراتيجية الدفاع الوطني للعام 2018، إذ قال: "بعد 15 عاماً، ستتجاوز الصين الولايات المتحدة". وأضاف: "إن الصين وروسيا قوتان تبهران العالم بنموذجهما السلطوي الشمولي، وتملكان حق الفيتو في مجلس الأمن". في كلّ هذا التسلسل، تتضح حقيقة الصراع: الحؤول دون امتلاك آخرين، غير غربيين، عناصر القوة التي تحول دون الهيمنة وفرض النظام الليبرالي لخدمة مصالح الأميركي.
العنصر الرابع هو أن تَشكّل المحاور المناوئة لهيمنة النيوليبرالية الغربية حافظ – مختاراً أو مرغماً – على احترام خصوصيات أعضائه واستقلاليتهم الوطنية، فمنهم من اختار الرأسمالية الوطنية، كما هو حال روسيا، أو الشيوعية المطورة المتأقلمة، كما هو حال الصين، أو غيرها من الأنظمة الأخرى. ولا نقصد بذلك رسالية إنسانية أو تغييباً للمصالح، وإنما رؤية أكثر واقعية وأقل غطرسة (غطرسة حديث النعمة الذي لا يفهم إلا القوة: قوة السلاح أو المال).
هذه المعادلة توصلنا إلى الحال الأوروبية، فأوروبا منذ الحرب العالمية الثانية تعيش تبعيتها الكاملة للولايات المتحدة الأميركية، حتى لو كانت تكابر لفظياً من حين إلى آخر، وهي تستمرئ كثيراً أن تجد نفسها ضمن المعسكر المعنون بـ"الديموقراطية الغربية"، لأنها تظن أنها من ابتكره وابتكر الليبرالية (والماركسية).
كما أنها تجد في الهيمنة الأميركية التي تسمّيها الهيمنة الغربية إرضاءً هائلاً لذاكرة التفوّق العنصري وللحنين الاستعماري وما يرافقه من طمع وجشع لا حدود له إزاء هذا العالم الذي لطالما أسمته ثالثاً ونامياً ومتخلّفاً، واعتادت أن تنهب ثرواته وتعيش وتنمو على حسابه.
وإذا كانت المفاجأة قد تمثّلت في أن أكبر الدول الأوروبية هي التي كانت أول من انهار وافتضح أمر نظامه الصحّي والاجتماعي، وكان بعض التفسير أن نظام الشركات المتوحّش لم يهتم يوماً بالناس بقدر ما اهتم بالربح، ولو على حسابهم، وأن البنى التنظيمية القائمة أثبتت فشلها ولا بد من أن تنهار، فإن المفاجأة الأخرى الأصعب على التفسير هي انكشاف مشروع "الأوربة"، التي كان أفضل وصف سمعته عنها ما قاله طبيب روسي: "أوروبا بدت أشبه ببيت جماعي، وما إن برز الخطر حتى أقفل كل منهم غرفته على نفسه ونسي الآخرين".
وإذا كان هذا الحدث يعزّز موقف من يسمّون بالسياديين، وكنا قد سمعنا بعد "البريكست" بـ"فريكست"، فهل سنشهد بعد كورونا إعادة نظر في الوحدة الأوروبية، وهل سنسمع عن "إيطاكسيت"، بعد أن نجحت كل من روسيا والصين، لأول مرة، في مدّ جسر جوي إلى إيطاليا؟ وهل ستنقلب حروب الجيل الخامس التي وصفها مطلقها الجنرال فنسن ستيوارت بحرب لأجل المعلومات، على الإمبراطورية الأميركية لصالح عالم آخر بعيد؟ هل سيعود خيط الحرير إلى تحدي خيوط النايلون؟
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً