قبل 4 سنە
حياة الحويك عطية
326 قراءة

المحافظة على الاستقرار النقدي.. من قال إن لبنان طائفي؟

 

كذب من قال إنّ في لبنان طائفية، فها هو السنّي والدرزي والشيعي ورأس الموارنة يلتقون في الدفاع المستشرس عن حاكم مصرف لبنان الماروني. 

لم يسأله أحد ما هي طائفتك، ولكنهم سألوا جميعاً عن دوره الأساس في الحفاظ على أموال طائفة الـ2% من اللبنانيين، وتبذير أموال الـ98% وتهريبها، وخنقهم ودولتهم.

هذه هي الطائفة الحقيقيّة الجامعة لكلّ أهل الـ2%؛ الهُوية الوطنية الوحيدة الجامعة التي يفهمونها ويلتفّون حولها. ولأجل حمايتها، يكرّس خطاب الطائفية العنصرية الأخرى التي تؤمّن حمايتهم؛ خطاب تحقن به تلك القطعان الغرائزية التي تمكّنهم من درء مصالحهم، كتلك التي تحقن بها الأحصنة للسباق. ولا بأس بعد انتهاء الشوط من أن يرتمي الحصان منهكاً مريضاً خاسراً، وينتشي صاحبه أو من راهن عليه بنعمة ما دخل جيبه ومتعة إحساسه بالانتصار والتفوق، استعداداً لشوط جديد.

تشبيه قد يفتقد ركناً، لأن هؤلاء لا يتحركون كالأحصنة، بل يساقون إلى الساحات وصناديق الاقتراع وعويل الاحتجاج، من دون أن يسأل أحدهم يوماً: هل كان النائب نهاد المشنوق وهو يتحدّث عن تحدّي أهل السنة في دار الإفتاء، يدافع عن مصالح فقراء عكار وطرابلس مثلاً؟ وإذا كان هؤلاء يشعرون بالقهر، كما قال على "العربية"، فهل هو قهر السنة أم قهر الفقر الذي يحسن توظيفه وتفجيره الأغنياء؟ هل لهؤلاء مصالح على اليخوت وفي قصور الغرب وكازينوهاته؟ هل مصلحتهم أن تسقط الليرة وتفرغ المصارف وتصبح لقمتهم مستحيلة أو أن تلك مصلحة زعمائهم من الـ2%، حيث يسهل لهم الفقر إمكانية شراء الذمم، والغطاء جاهز: الطائفة!؟

ألا تكفيهم لحل أزمتهم لمدة أشهر تكاليف الأعراس التي لم يعد أهل الـ2% يتنازلون ويحيونها في لبنان، فتذهب ملايين نفقاتها إلى منتجع أوروبي، في وقت يعيش القطاع السياحي أصعب أوقاته في البلاد؟ هذا إضافة إلى ما يدفعه أهل السياسة والإعلام والأعمال والثقافة، من مختلف الطوائف، الذين يتدافعون للالتحاق بنادي هذا الفجور الاقتصادي؟ ثم يعود الداعي والمدعو ليلعلعوا في لبنان تأييداً لـ"الثوار" المطالبين بلقمة العيش والسيادة الوطنية. 

هل كان لسعد الحريري وهو يصيح متهماً الحكومة وناسها بالتآمر على الحريرية السياسية، أن يسأل أي واحد من الجمهور الذي يدمّر ويعتدي على الجيش في الشارع: ماذا يفهم بالحريرية السياسية؟ هل يفهم بها محو ذاكرة بيروت بمصادرة وسطها التاريخي – ضميرها – هُويتها، ملكية كل عائلاتها التجارية التاريخية، كبيرها وصغيرها (ومعظمها من "أهل السنة"، أهل بيروت) وتحويلها إلى نسخة ممسوخة من كلّ مولات العالم ومراكز تجارته التابعة لشركات عابرة للجنسيات والدول؛ شركات معولمة دورها وضرورتها محو الذاكرة، ومحو الهوية، ومحو الخصوصية الثقافية، والدخول في مصهر التماثل والتشابه، بل والتطابق الذي لا هُوية له إلا الاستثمار النيوليبرالي الذي يزيد الغني غنى والفقير فقراً؟ 

كلام قد لا يفهمه المشاغبون الغاضبون؟ ربما. لأنهم لا يعرفون عما هذا الكلام، لأن واحدهم لم يملك يوماً ثمن فنجان قهوة في هذا الوسط الجديد المترف. لا يعرفه. 

هل كان وليد جنبلاط وهو يرغي ويزبد على قناة "العربية" قلقاً على حال الدروز أم على زعامة المختارة؟ على كرامات الناس أم على خطر محاسبة وكلاء الباطن أم على تجاهل حصته في صفقة ما؟ أم على إمكانية استرجاع أموال أخرجها من لبنان لتسقط الليرة وتسقط الحكومة والرئاسة، وبالتالي الدولة؟

هل كان البطريرك الراعي يدافع عن فقراء عكار وبشرّي وبعض أحياء بيروت، وهو يعتبر مطالبة شخص مؤتمن على مال الناس بالحساب؟ هل ما زالت مليارات البطريركية الثرية في لبنان ضماناً لأبناء الطائفة أم أن رياض سلامة أمَّن خروجها إلى أوروبا خدمة لمشروع سياسي؟ أهذه هي الصيغة التي يغضب غبطته بسبب المساس بها؟

هل كان لسماحة مفتي الجمهورية أن يشرح لنا كيف تآمر حسان دياب (السني) على السنية السياسية بمطالبته القانونية لرياض سلامة (الماروني)؟ وأن يوضح لنا لماذا تحوّل تجمع خير مشكور في دار الإفتاء لجمع تبرعات لعلاج كورونا، إلى جبهة طائفية ضد سلطة من السنة والشيعة والموارنة (ترجمة الميثاق البغيض الذي لن يترك للبنان مرة يكون دولة)؟ 

وها هي العلمانية أيضاً تلتقي مع سماحته وغبطته، فتطلّ علينا أبواق النيوليبرالية من صبية المنظمات غير الحكومية، ليتكلَّموا عن حاكم المصرف وكأنه مدير مكتب لا غير، فيكون مطلبهم الأول الامتثال إلى شروط صندوق النقد والبنك الدولي وبيع أملاك الدولة العامة، متماهين مع شركاء ما بعد "الطائف" واقتصاديي "صار الوقت". هل سألهم صحافي: لنفترض أنَّ الحاكم لم ينصح أحداً بتهريب أمواله، وأن من هرّبوا لم يستشيروا الحاكم، ألم يكن من الجدير به أن يبلغ السلطات حالما طلب منه حجم تحويلات يهدّد ما تبقى؟ 

لولا كل هؤلاء، ولولا الشركاء الذين أشار إليهم الحاكم حين قال أمس: "لست وحدي"، هل كان سيتجرأ على أن يخرج على اللبنانيين ليقول لهم ما بدا للوهلة الأولى أنه لا شيء، غير أنه يكشف عند التمعّن عن جريمة خطيرة موصوفة وشركاء كثيرين فيها، يشبهون أولئك الذين جاؤوا يسرقون المصرف خلال الحرب الأهلية، مع فارق أن رياض سلامة لا يشبه إدمون نعيم!

هل سأل صحافي من أولئك الذين يعشقون التهويل وربما يجدون فيه حالة "أكشن" أو مصدر رزق إضافياً، متظاهراً من هؤلاء الذين يعتدون ويدمرون ويشتمون ويصرخون بجوعهم وحقوقهم بضعة أسئلة من مثل: من انتخبت؟ وإذا كان خياره من أولئك الذين يحملون لقب الثاني والثالث والرابع عشر، أو واحداً احتل بذاته موقعاً لدورات متتالية، فليردف بالسؤال: هل أمّن هذا الزعيم لمنطقتك مثلاً مستشفى مجانياً أو شبه مجاني؟ هل سعى لإنشاء تعاونيات زراعية بين أهل المنطقة، ولتأمين مستلزماتها بأسعار مناسبة تساعد المزارعين على العيش الكريم من دون تسول، ومن دون التدفق إلى بيروت عمالاً أو نواطير عمارات؟ 

هل سعى الزعيم إلى تفعيل الصناعات الخفيفة، من صناعات غذائية مناسبة للمنتج الزراعي أو حرفية أخرى؟ هل نمت المدرسة الرسمية في المنطقة عدداً ومستوى تعلمياً وجودة؟ هل أمّنت جميع القرى (أو) تجمعاتها بمستوصفات بدئية؟ وإذا كان المنتخب المفدّى جديداً، فهل وعدكم بشيء من كل هذا؟ وهل نفَّذ، ولو جزءاً؟ وإذا كان الأخ الكريم ينتمي إلى ما يسمى، مجازياً، حزباً أو حركة، فما هو برنامج هذا الحزب لكل ما تقدم؟ 

ربما أجاب المعنيّ بمنجز تأمين حقوق الطائفة من الوظائف بناءً على حق المحاصصة، والشاطر البطل يتعدى حصته على حساب الآخرين، فيهتف له عبيده، من دون أن يسأل أحد: من أين تحافظ هذه الدولة الريعية والمتسولة والمنهوبة على كل هذه الرواتب، حتى لو افترضنا معجزة الاقتصار على الراتب من دون رشاوى وسرقات عملاً بمبدأ: الناس على دين ملوكهم، و"كل وما تطال يده"!؟ دولة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تنسج، وتستهلك مما لا تصنع... وليسمح لنا جبران بإضافة: تفكّر بما لا تفرزه أدمغتها، بل بما يرمى لها من فضلات أفكار من يبحثون عن مصالحهم في الداخل والخارج. 

الأفكار والحق في التعليم يقودان حتماً إلى قضية التعليم المجاني والجامعة الوطنية، فقد كنت طالبة في الجامعة اللبنانية قبل 40 عاماً؛ يوم كانت الحركة الطلابية في لبنان مرجلاً يغلي بالأفكار والمدارس والحراكات في كل ما يخص القضايا الوطنية والقومية، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. حراك كانت كلية الحقوق، كليتي، بؤرته الأساسية.

 كان في مقدمة هذه القضايا قضية الجامعة الوطنية، تعزيزها، تدعيمها، والتصدي لمحاولات زعزعتها. العشرات، إن لم أقل مئات النداءات والبيانات والاعتصامات والتظاهرات، ركّزت على هذه القضية، فما من شيء يعزز الهوية الوطنية المستقلة إلا التعليم، وما من شيء يقسمها فعلياً ويشتتها مثل اختلاف مرجعيات المؤسسات التعليمية، وخصوصاً عندما تكون تلك المرجعيات طائفية أو خارجية.

هذا في مجال محاربة الانقسام العمودي، ومثله في مجال الانتماء الأفقي، حيث يتساوى المواطنون، فقراء أو متوسطي الثراء أو أغنياء في الفرص. ولأنها كذلك، كانت مطالبنا تتجاوز الحفاظ على الجامعة إلى النهوض بمستواها. وعندما ذهبت إلى فرنسا لمتابعة الدراسات العليا، وجدت أن الجامعات التي يفخر أي طالب فرانكوفوني بأنه خرّيجها هي جامعات حكومية مئة في المئة، مثلها مثل الإعلام، وتعتبر ركيزة من ركائز السيادة الوطنية والهوية الوطنية.

عندما ألمح نيكولا ساركوزي بأنه يريد خصخصة التعليم والصحة، ردت عليه منافسته سيغولين رويال بأنه يهدم برج إيفل، فسكت... يوم عيِّنت في منصب أكاديمي، قال رئيس الجامعة في تقديمي: تحمل الدكتوراه من أعرق جامعة في العالم الفرانكوفوني، وحتى البكالوريوس من الجامعة اللبنانية أيام عزها. 

توقّعت أن أسمع من المتظاهرين في بيروت وغيرها مطالبة حادة بالحفاظ على الجامعة اللبنانية وتطويرها، وخصوصاً أنها مدرجة، ولو خفية، على قائمة الخصخصة الفاسدة. ونادراً ما سمعت هذه الكلمة إلا من وزير التربية الجديد، ولم أعجب لأن أباه، الدكتور محمد المجذوب - رحمه الله - أستاذي في كلية الحقوق، يوم كان إدمون نعيم عميدها، هو أحد عمالقة هذه الجامعة وعلامة فارقة في تاريخها. 

نعرف أنه كلام يغضب عشّاق الخصخصة.. ولكن أليست فرنسا أمكم الحنون؟ تعلَّموا منها، واسألوا من تبيعونه ولاءكم بلا شيء، إن كان يريد خصخصة الجامعة، كي لا تظلّ أمامكم إلا واحدة من اثنتين: البقاء في الجهل أو التعلم كما كان صغار المماليك يتعلمون. 

اسألوا، بحقّ الله، اسألوا عن أنفسكم، لا عن طائفتكم، فللبيت رب يحميه، أما أنتم، فلكم بيوتكم الآيلة إلى السقوط قريباً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP