لم تسقط الراية يا سيد الشهداء!
لا أعرف لماذا انقبض قلبي وارتعدت جوارحي عندما بدأت الأخبار تتوارد عصر الجمعة عن ضربة صهيونية غادرة في قلب الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، ولا أعرف سبباً واضحاً لحضور صورة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله أمام ناظريّ من دون انقطاع، وعلى الرغم من عدم ورود اسمه في بداية الحدث في قائمة المستهدفين حسب التسريبات الإسرائيلية، فإنني كنت متيقّناً بأن ضربة جنونية ومجرمة كهذه لا يمكن أن تستهدف شخصاً غيره.
وكم كان مرعباً ذلك الشعور بالعجز والخوف عندما بدأت وسائل إعلام العدو بتداول اسم سماحته كمستهدف رئيسي في العدوان الإجرامي، إذ استمر هذا الشعور حتى إعلان حزب الله ظهيرة السبت عن ارتقائه شهيداً مقبلاً غير مدبر بعد رحلة طويلة من الجهاد والنضال والدعوة، وبعد اثنين وثلاثين عاماً من البناء والتنظيم لحزب عقائدي ومقاوم استطاع تحقيق إنجازات عجزت عنها دول كثيرة، تملك من الإمكانيات والقدرات أضعاف ما يملكه ذلك الحزب، لكن الخور الذي أصابها، والفساد الذي نخر جسدها ومؤسساتها قد منعها من الوصول إلى ذلك الشرف الذي لا يتحصّل عليه إلا من اجتهد وبذل وقدّم وضحّى.
الآن، وبعد الإعلان رسمياً عن استشهاد حسين زماننا، وكرّار محورنا، وحيدرة مقاومتنا، تبدو الدنيا مظلمة وموحشة إلى حدٍّ بعيد، إذ إن صبحها المشرق قد رحل، ونورها الساطع قد أفل، وجمالها الأخّاذ قد ذبُل، وكأنها فقدت قمرها الذي يضيء لياليها المظلمة، وشمسها التي تدفئ أيامها الباردة، وكأن قلبها الذي ينبض بالحياة قد توقف إلى الأبد.
اليوم، لا تبدو الصباحات جميلة، ولا المساءات دافئة، ولا اللقاءات حميمة، فكل شيء جميل قد انطفأ توهّجه، وزال تألّقه، وحل بدلاً منه سواد بلا نهاية، وقبح يملأ المدى، وضحكات خبيثة يُسمع صداها في كل الأجواء، وترى صورتها عبر كل الشاشات، فتزداد غربتنا، ويعظُم ألمنا، ونكاد ننادي في الآفاق أن يا وحدنا بعدك يا أبا هادي.
كم كانت حزينة تلك اللحظات ومذيعة قناة الميادين تقرأ بيان نعي القائد الشريف والعزيز سماحة السيد حسن نصر الله، وكم كانت كلماتها المرتجفة، ودموعها المنهمرة تبكينا، بل وتحرقنا أكثر فأكثر، ونحن نتمنى أن يكون ما نسمعه مجرد حلم، أو كابوساً من عمل الشيطان، سرعان ما نستيقظ منه، وننفض حينها كل ما علق منه في أرواحنا، لكن للأسف لم يكن حلماً، ولم يكن كابوساً، بل حقيقة قاسية لا فِكاك منها، ولا هروب من أوارها الذي أبكى القلوب قبل العيون.
اليوم، لا أجدني راغباً في الكتابة عن التداعيات المحتملة، أو التطورات المرتقبة، إذ إنني لا أملك طاقة لأيٍّ من هذا، فالروح تائهة، والنفس فقدت حماستها، ولكن هي الأمانة التي وضعها في أعناقنا شهيدنا السعيد تدفعنا لنكتب عنه علّنا نوفيه جزءاً من حقّه، وبعضاً من دينه، واليسير من فضله وبذله، حتى يبقى ذكره في العالمين إلى آخر المدى، كيف لا وهو الذي قدّم من دون منّة، وضحّى من دون شكوى، وصفح من دون عتاب.
اليوم يا سيد الشهداء ترحل نحو وجه الله الكريم، لترتاح روحك بعد رحلة طويلة من التعب والعناء، والبذل والعطاء، والتضحية والفداء، اليوم تجتمع مع الأحباب والخلّان في جنة الرحمن، بعيداً من حقد الحاقدين، وشماتة الشامتين، ومكر الخائنين، لقد آن لهذا الجسد الطاهر والشريف أن يرتاح، أن يحلّق في السماء من دون خوف من صواريخ غادرة، أو عيون ماكرة، من دون توجّس من نظرات المخبرين، وطائرات المجرمين، ومؤامرات الغرف السوداء في واشنطن و"تل أبيب".
اليوم يا سيّدي تغادر هذه الدنيا الفانية، المليئة بالكره والحقد والشر إلى رحاب الله، حيث الخير واللطف والنقاء، حيث الحب والعشق والصفاء، حيث أحبابك الذين سبقوك إلى هناك، حيث ابنك هادي الذي قدمته شهيداً على طريق القدس وفلسطين، فهنيئاً لك يا سيدي هذا الشرف الرفيع، وهنيئاً لك الانتقال من دنيا الطين إلى جنة الفردوس مع الأنبياء والشهداء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقاً.
أما أولئك القتلة والأوغاد والمجرمون فليس لهم سوى اللعنات، التي ستصيبهم عاجلاً أو آجلاً من جرّاء ما اقترفوا من جرائم، وما سفكوا من دماء، وما أزهقوا من أرواح، فليضحكوا قليلاً، وليشربوا في كؤوس ثمالتهم من دمنا المراق على حدود الوطن، فإن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!
ختاماً نقول يا حسيننا الأبدي المذبوح في كربلاء، ويا حبّنا الأزلي المقتول غيلة وغدراً من أشقى الأشقياء، يا شقائق النعمان في بلادنا المغصوبة، ويا ورود الرياحين في حقولنا المنهوبة، أننا على عهدك ووعدك، لن نحيد عن الطريق، ولن نغادر الميدان، مهما كانت التضحيات، ومهما ادلهمت الخطوب.
سنواصل الطريق الذي عبّدته بعظامك الطاهرة التي هشّمتها صواريخ الأعداء، لا يخيفنا جبروتهم، ولا ترعبنا آلة قتلهم، ولا يفتّ في عضدنا أبواق دعايتهم، ولا الخونة الذين اصطفوا إلى جوار أعدائك، يفرحون لمقتلك، ويشمتون بمصرعك، فكلهم يا سيدي إلى زوال مهما طالت أعمارهم، وسيذكرهم التاريخ كما ذكر قتلة جدّك الحسين، وسيجلّلهم الخزي والعار في الدنيا والآخرة.
أما نحن يا سيدي فلنا من بعدك الصبر والسلوان، على أمل أكيد بأننا سنلتقي يوماً في ظل عرش الرحمن، حينها يزول الألم، ويطمئن القلب، ويعمّ الفرح، وما ذلك على الله بعزيز.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة